التالي

أصالة ثلاثيات المعرفة في القرآن

السابق

بمطالعة القرآن نعرف أصالة المعرفة بأقسامها الثلاثة في القرآن.

الأصالة الأولى هي أصالة الانتساب، أي أنه بدون أي شك وبدون الحاجة إلى البحث والتفتيش حول النسخ القديمة، فإننا نعرف بوضوح: أن ما يتلى هذا اليوم باسم القرآن الكريم، فهو نفس الكتاب الذي أتى به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من عند الله وعرضه على العالم.

الأصالة الثانية، أصالة المواضيع؛ أي أنّ معلومات ومعارف القرآن إبداعية مبتكرة، وليست إلتقاطية ولا مقتبسة. والتحقيق حول هذا الأمر من واجبات المعرفة التحليلية.

الأصالة الثالثة، هي أصالة القرآن الإلهية، أي أن هذه المعلومات ألقيت على الرسول الأعظم من أفق أعلى من أفق أفكار الرسول، وإنما كان الرسول متلقيا من الوحي وحاملا لهذه الرسالة. وهذه النتيجة نحصل عليها من المعرفة الجذرية للقرآن. وهذه المعرفة الجذرية - وبعبارة أخرى تعيين أصالة العلوم القرآنية - مبتنية على المعرفة من القسم الثاني.

ولذلك، فإننا نبدأ البحث من المعرفة التحليلية، أي نحقق في هذا الأمر: ما هي محتويات القرآن؟ وما هي المواضيع المعروضة في القرآن؟ وفي أي المواضيع أظهر القرآن اهتمامنا أكثر؟ وكيف عرضت تلك المواضيع؟

إذا استطعنا - في المعرفة التحليلية - أن نؤدي حق الموضوع، وإذا فهمناه فهما جيدا، وعرفنا معارف القرآن معرفة كافية، عندئذ- وكما قلنا - نصل إلى هذه الأصالة التي هي أساس أصالات القرآن، وهي الأصالة الإلهية، أي كون القرآن معجزة.

شروط التعرف على القرآن

تحتاج معرفة القرآن إلى مقدمات وشروط نذكرها بإيجاز:

أحد الشروط الضرورية لمعرفة القرآن: معرفة اللغة العربية. وكما لا يمكن معرفة (أشعار) حافظ وسعدي، دون الإلمام الفارسية، فإن معرفة القرآن المكتوب باللغة العربية دون معرفة اللغة العربية أمر محال.

الشرط الآخر: هو الإلمام بتاريخ الإسلام، لأن القرآن ليس مثل التوراة أو الإنجيل، إذا عرض كل منهما (وبلغ إلى الناس) مرة واحدة من قبل الرسول (موسى وعيسى)، بل، أن هذا الكتاب نزل طوال 23 سنة من حياة الرسول الأعظم، من البعثة حتى الوفاة، وخلال الأوضاع المختلفة لتأريخ الإسلام المملوءة حركة وثورة، ولهذا نلاحظ هناك أسباب لنزول آيات القرآن، وسبب النزول لا يحدد معنى الآية، بل، وبالعكس فإن معرفة سبب النزول، يرشد ويؤثر كثيرا في توضيح مضمون الآيات.

الشرط الثالث: هو الإلمام بكلمات وأقوال الرسول الأعظم (ص)، فالرسول بنص القرآن، أول مفسر لهذا الكتاب، حيث جاء في القرآن:

((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) (النحل - 44).

((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)) (الجمعة - 2).

الرسول الأكرم (ص) - من نظر القرآن - بنفسه مبين ومفسر لهذا الكتاب، وما جاءنا من الرسول يعيننا على تفسير القرآن.

أما بالنسبة إلينا - نحن الشيعة - الذي نعتقد بالرسول والأئمة الأطهار(ع) ونعتقد أن ما كان للرسول من قبل الله، فقد نقله إلى أوصيائه المكرمين، فإن الأحاديث المعتبرة التي وصلتنا من الأئمة، لها نفس اعتبار الأحاديث المعتبرة، الواصلة من رسول الله، فإن الروايات الموثقة من الأئمة، تساعدنا كثيرا في معرفة القرآن.

هناك نقطة لا بد أن نهتم بها في التحقيق حول القرآن، وهي أن نتعرف على القرآن بالاستعانة بالقرآن نفسه. وهي أن نتعرف القرآن بالإستعانة بالقرآن نفسه. والغرض من ذلك أن مجموعة آيات القرآن تكون مع بعضها بناء متراصا، أي أننا إذا أخذنا آية واحدة من آيات القرآن، وقلنا أننا نريد فهم هذه الآية فقط، يعتبر هذا أسلوب خاطئ، وبالطبع يحتمل أن يكون فهمنا لتلك الآية فهما صحيحا، ولكن هذا عمل مخالف للاحتياط، فآيات القرآن تفسر بعضها بعضا، وكما قال بعض المفسرين الكبار، فإن الأئمة الأطهار أيدوا هذا الأسلوب من التفسير.

القرآن له أسلوب خاص بنفسه في توضيح وبيان المسائل، ففي موارد كثيرة إذا أخذت آية واحدة من القرآن، دون عرضها على الآيات المشابهة، فإنها تأخذ مفهوما يختلف كليا عن مفهوم نفس الآية، إذا وضعت بجانب الآيات التي تشابهها في المضمون.

لعرض نموذج من هذا الأسلوب الخاص للقرآن، نستطيع ذكر الآيات المحكمة والآيات المتشابهة. هناك تصور ساذج بالنسبة للمحكمات والمتشابهات، فيعتقد البعض بأن الآيات المحكمة هي التي عرضت فيها المواضيع بصورة عادية وصريحة، والآيات المتشابهة بعكس ذلك، فإن الموضوعات فيها على صورة ألغاز ورموز. وبمقتضى هذا التعريف، يحق للناس أن يتدبروا في الآيات المحكمة والصريحة فقط، وأما الآيات المتشابهة فلا يمكن معرفتها، ويمنع التفكر فيها.

وهنا بالطبع، يطرح هذا السؤال نفسه: ما هي أذن فلسفة الآيات المتشابهة؟ لماذا يعرض القرآن آيات غير قابلة للمعرفة؟ الجواب بالإيجاز هو أن الآيات المحكمة ليس معناها الآيات الصريحة والواضحة، وليست الألغاز والرموز معاني للمتشابهات. اللغز لفظ مبهم، لا يفهم معناه مباشرة، والآن لننظر هل توجد في القرآن آيات مبهمة؟ هذا القول ينافي نص القرآن الذي يقول بأن القرآن كتاب مبين في آياته، وأن آياته واضحة مفهومة، وجاءت لتكون نورا وهدى للناس. إلا أن سر الموضوع، يكمن في بعض المواضيع المعروضة في القرآن خاصة، عندما يأتي الكلام عن ما وراء الطبيعة والأمور الغيبية فإنها غير قابلة للبيان والتوضيح أساسا مع الألفاظ.

ولكن بما أن لغة القرآن هي اللغة المتداولة بين البشر، فإن هذه المواضيع المعنوية اللطيفة، وردت بنفس العبارات والألفاظ، التي يستخدمها البشر في الموضوعات المادية. ولكن لتجنب سوء الفهم، فإن المسائل الواردة في بعض الآيات لا بد أن تسر <تفسر؟؟> بمعونة الآيات الأخرى، ولا يوجد سبيل آخر غير هذا السبيل.

فمثلا يريد القرآن أن يذكر حقيقة إدعاء رؤية الله بالقلب (أي الإنسان يستطيع أن يرى الله بقلبه)، ورد هذا المعنى في قالب العبارات: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) (القيامة - 22-23). استخدم القرآن لفظة "النظر"، لأنه لا توجد كلمة أنسب من هذه الكلمة، لأداء الغرض والمقصود، ولتجنب الاشتباه يوضح في مكان آخر: ((لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير)) (الأنعام - 103). يلاحظ القارئ أنه بالرغم من التشابه اللفظي، لا يوجد تشابه بين هذه الأمور، ويختلف كل عن الآخر اختلافا كاملا. والقرآن - لتجنب الخطأ بين المعاني العالية والمعاني المادية - يأمرنا بإرجاع المتشابهات إلى المحكمات:

((...أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ...)) (آل عمران - 7)

بعض الآيات محكمة، أي أن لها ذلك الاستحكام، الذي لا يمكن فصلها عن معانيها، واتخاذ معان أخرى لها. هذه الآيات هي أم الكتاب، أي أنها الآيات الأم. فكما أن الطفل يرجع إلى أمه، وأمه تكون مرجعا له، وأن المدن الكبيرة (أم القرى)، تكون مرجعا للمدن الأصغر، فالآيات المحكمة أيضا تحسب مرجعا للآيات المتشابهة. الآيات المتشابهة للتدبر والتفكر ولكن لابد من الاستعانة بالآيات المحكمة لكي نتدبر فيها. وبدون الاستعانة بالآيات الأم، فإن ما يستنتج من الآيات المتشابهة غير صحيح وليس له اعتباره.

التالي

الفهرست

السابق