التالي

هل يمكن معرفة القرآن

السابق

إن أول سؤال يطرح نفسه لدى التحقيق في موضوعات القرآن، هو هل يمكن - أصلا - معرفة القرآن؟ وهل هناك إمكانية التحقيق في القرآن؟ وهل يمكن التفكر والتدبر في مواضيع ومسائل القرآن؟ أم أن هذا الكتاب لم يعرض أساسا للمعرفة؟ بل فقط للتلاوة والقراءة والتبرك والتيمن وأخذ الثواب؟

يمكن أن يخطر إلى البال أن هذا السؤال ليس له وجه، لأنه لا يشك أحد أن القرآن كتاب للمعرفة، ولكن لظهور قضايا خاطئة في مسألة معرفة القرآن بعلل مختلفة في العالم الإسلامي، وكان لها تأثير فعال في انحطاط وتدهور المسلمين ولا زالت - مع الأسف - جذور تلك الأفكار المنحطة الخطرة موجودة في مجتمعاتنا، لذلك يلزمنا أن نوضح قليلا هذا الموضوع:

ظهر بين علماء الشيعة قبل ثلاثة أو أربعة قرون، أشخاص يعتقدون بعدم حجية القرآن. ولم يعترفوا في ثلاثة من المنابع الأربعة للفقه، والتي ارتضى بها علماء المسلمين، بمثابة معايير لمعرفة المسائل الإسلامية، وهي القرآن والسنة والعقل والإجماع. كانوا يدعون إن الإجماع من بنات علماء المذاهب الأخرى ولا يمكن اتباعه، والعقل لا يجوز الاعتماد عليه لكثرة أخطائه، وأما بالنسبة للقرآن فكانوا يعتقدون بأنه اكبر من أن نستطيع نحن البشر أن نطالعه ونتأمل فيه ولا يحق إلا للنبي والأئمة من التعمق في آيات القرآن ونحن لا يحق لنا غير تلاوة الآيات، وهؤلاء هم الأخباريون.

الأخباريون لا يجوّزون إلاّ مراجعة الأخبار والأحاديث. ربما تعجبتم إذا علمتم أن بعض التفاسير التي كتبت من قبل هؤلاء، إذا رأوا حديثا في ذيل آية ذكروها، وإن لم يجدوا حديثا امتنعوا حتى من ذكر الآية، وكأن تلك الآية ليست في القرآن. هذا العمل كان نوعا من الظلم والعدوان تجاه القرآن. وطبيعي أن مجتمعا يطرد بهذا الشكل كتابه السماوي - وأي كتاب كالقرآن -، ويسلمه بيد النسيان، لا يمكن أن يتحرك أبدا في مسير القرآن.

وكان هناك فرق أخرى غير الأخباريين يمتنعون من وضع القرآن في متناول أيدي العامة (من الناس)، نستطيع أن نذكر من هذه الفرق: الأشاعرة الذين كانا يعتقدون بأن معرفة القرآن لا تعني التدبر في آيات القرآن، بل معناها فهم المعاني اللفظية للآيات، أي أن ما عرفناه من ظاهر الآيات نقبلها ولا يهمنا من واقعها شيئا. وطبيعي أن هذا الأسلوب من المعاملة مع القرآن، سريعا ما يدعو إلى الضلال والانحراف، لأنه لا مفر من توضيح معاني الآيات، ولكن لأنهم عطلوا العقل، فلا بد أن يحصلوا على نتائج ساذجة من القرآن. وبدليل هذا النوع من التفكير، انحرفوا عن طريق الإدراك الصحيح، واعتقدوا اعتقادات باطلة، من قبيل التجسم <التجسيم؟؟>، أي أن الله جسم، مئات من العقائد الانحرافية الأخرى مثل قولهم بإمكانية رؤية الله بالعين والتحدث مع الله بواسطة اللسان العضوي و....

وفي مقابل الفرق التي تركت القرآن من الأساس، ظهرت فرقة أخرى جعلوا القرآن وسيلة للوصول إلى أغراضهم وأهدافهم الشخصية. وكلما كانت تقتضي مصالحهم قاموا بتأويل القرآن ونسبوا إليه أمورا لا ترتبط أساسا بروح القرآن، وعند مواجهتهم أي اعتراض كانوا يجيبون أنهم دون غيرهم يعرفون بواطن الآيات، وأن المعاني المستخرجة حصلوا عليها من معرفة بواطن الآيات. وأن أبطال هذه الحركة في تاريخ الإسلام فرقتان: أولاها الإسماعيلية ويقال لهم الباطنية وثانيتها المتصوفة. الإسماعيلية يسكنون الهند ويسكن بعضهم في إيران. وقد نجحوا في استلام الحكم، وهي الحكومة الفاطمية في مصر.

يعرف الإسماعيليون بأنهم من الشيعة، ويعتقدون بستة من الأئمة، ولكن، أجمع علماء الشيعة الأثنا عشرية، أن هؤلاء بعيدون عن التشيع كل البعد، حتى أهل السنة الذين لا يعتقدون بأئمة الشيعة كما تعتقد الشيعة، اقرب إلى التشيع من هؤلاء الشيعة المعتقدين بستة من الأئمة (اشترك جماعة - بالنيابة عن الإسماعيلين - في مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية الذي تأسس قبل 35 سنة تقريبا، واجتمعت فيه جميع الفرق الإسلامية، وهناك اتفق علماْ <علماء؟؟> الشيعة والسنة، ان الإسماعيليين ليسوا من الفرق الإسلامية، ولم يسمحوا لهم بالاشتراك في ذلك المجمع )أرتكب الاسماعيليون بواسطة اعتقادهم بالباطنية خيانات كثيرة ي <في؟؟> تاريخ الإسلام، وكان لهم دور كبير في إيجاد الانحراف في الأمور الإسلامية.

وإذا انصرفنا عن الإسماعيلية، فهناك المتصوفة الذين لهم دور كبير في مسألة تحريف الآيات، وتأويلها طبقا لعقائدهم الشخصية، أذكر هنا مثالا واحدا لتفاسيرهم، حتى تتضح طريقتهم في التحريف، وليقرأ القارئ حديثا مفصلا من هذا المجمل.

عندما ورد ذكر إبراهيم (ع) وابنه اسماعيل (ع) في القرآن، يحكي القرآن أن إبراهيم كان يؤمر في المنام - عدة مرات - بذبح ابنه في سبيل الله. يتعجب إبراهيم في البداية من هذا الأمر، ولكن بعد تكرر الرؤيا يتيقن ويسلم أمره إلى الله، ثم يخبر ابنه عن هذا الموضوع، ويقبل ابنه بكل إخلاص ويستسلم لحكم الله، قال تعالى.. ((.. يابني إني اري في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت أفعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين)) (سورة الصافات، الآية 102)، والغرض هو إظهار التسليم والرضى بقضاء الله، ولذلك فعندما يستعد الأب والابن بكل إخلاص لتنفيذ أمر الله تبارك وتعالى، يتوقف تنفيذ الحكم بإذن الله.

وفي تفسير هذه الحادثة يقول المتصوفة: إن المقصود من إبراهيم هو العقل، والمقصود من إسماعيل هو النفس، والعقل - هنا - كان يريد أن يذبح النفس!

وواضح أن هذا النوع من التفسير لا يكون <إلا؟؟> لعبا بالقرآن وإظهار نوع من المعرفة الانحرافية. وبالنسبة لهذه التفاسير المنحرفة والمبتنية على الأميال والأهواء النفسية والحزبية، يقول الرسول الأعظم (ص): "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده في النار". وهذا النوع من التفسير (المتقدم) يعتبر اتخاذ القرآن لعبا، وأنه خيانة كبرى ( لقد كثرت في عصرنا الحاضر - وللأسف - التفاسير الانحرافية والإلتقاطية، وقد أخذت الأفكار الإلحادية صبغة إسلامية أحيانا. وقد بدأ أستاذنا الشهيد حركة واسعة النطاق لمواجهة مثل هذه الحركات الانحرافية، وناضل بفكره ويراعه ما استطاع، حتى أنه استشهد في هذا السبيل ) اتخذ القرآن أسلوبا وسطا في مقابل الجمود والتفكر الجاف للأخباريين ونظرائهم، وكذلك في مقابل الانحرافات والتفاسير الخاطئة للباطنية وغيرهم، وهذا الأسلوب (الوسط) عبارة عن التأمل والتدبر المنصف والبعيد عن الأغراض والأهواء.

القرآن يدعو المؤمنين، بل وحتى المخالفين بالتفكير في آياته، ويدعوهم بأن يتأملوا في آياته بدلا عن صدها وإنكارها. يقول في خطاب مع المخالفين: ((أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) (محمد - 24). يقول في آية أخرى: ((كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) (ص - 29). أنه كتاب مبارك مثمر أرسلناه إليك، لماذا؟ لم نرسله ليقبلوه ويضعوه فوق الرفوف، بل أرسلناه ليفكروا ويتدبروا في آياته.

هذه الآيات وعشرات الآيات الأخرى التي تؤكد على تدبر القرآن، تجوز وتؤيد تفسير القرآن ‎، ولكن ليس تفسيرا على الهوى والميل النفسي، بل على أساس الصدق والإنصاف، بعيدا عن الأغراض الشخصية. عندما تتأمل في القرآن بإنصاف وبدون غرض ‎، فلا ضرورة لنا في إمكانية معرفة كل مسائلة.

القرآن من هذه الجهة يشبه الطبيعة. فكم من أسرار في الطبيعة لم تنكشف بعد، وليس هناك أمل في اكتشافها، في الأوضاع الحالية، ولكنها سوف تكشف في المستقبل. وإضافة على ذلك، بالنسبة إلى معرفة طبيعة الإنسان، لا بد من مطابقة التفكر مع الطبيعة كيفما كانت. القرآن أيضا كتاب مثل الطبيعة لم ينزل لزمن واحد، وإذا كان غير ذلك فقد كانوا يكتشفون غوامضها جميعا في الماضي، وكان هذا الكتاب السماوي يفقد جاذبيته وطراوته وتأثيره.

إن الاستعداد للتدبر والتفكر، وكشف غوامض القرآن، موجود دائما، وهذه نقطة وضحها النبي والأئمة عليهم السلام، في حديث منقول عن الرسول (ص) يقول فيه (ما معناه): مثل القرآن مثل الشمس والقمر، يتحرك مثلهما باستمرار، أي أنه ليس ثابتا ولا يبقى في مكان واحد، وقال (ص) أيضا: "القرآن ظاهرة أنيق وباطنه عميق" (هذه الجملة جاءت ضمن حديث طويل للرسول الأعظم (ص) في فضل القرآن - الكافي ج4 - ص 399)

في عيون أخبار الرضا، نقل من قول الإمام الرضا (ع)، أنه سئل الإمام الصادق (ع): ما هو السر في بقاء القرآن على طراوته كلما يتلى أكثر، وكلما يمضي عليه الزمان زمنا أطول؟ فأجاب الإمام: "لأن القرآن لم ينزل لزمان دون زمان ولناس دون ناس". لقد أوجده الله ليسبق الأفكار والأزمنة في أي زمان، مع وجود الاختلافات الكثيرة في المعلومات وأنواع التفكر ومدى أتساع الفكر، مع أنه يحوى مجهولات لقرائه في كل زمان، ولكنه يعرض مقدارا كبيرا من المعاني والمفاهيم، القابلة لإدراك، بحيث يشبع حاجة الزمان.

التالي

الفهرست

السابق