التالي

الذين يفهمون القرآن كتاب موت (4)

السابق

(2)

يقول القرآن الكريم: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ))1.

جاء في التفاسير أن بعض المسلمين أثقلوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت هذه الآية الكريمة، وفي الحديث: "وكان الرجل إذا أراد أن يكلمه تصدق بدرهم، ثم كلمه /الرسول/ بما يريد، فكف الناس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبخلوا أن يتصدقوا قبل كلامه، فتصدق علي (عليه السلام) بدينار كان له فباعه بعشرة دراهم في عشر كلمات سألهن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يفعل ذلك أحد من المسلمين غيره، وبخل أهل الميسرة أن يفعلوا ذلك."2 ثم نسخ هذا الحكم بالآية التي تليها.

والسؤال - الآن - هو: ما هي العبرة الحية والواقعية التي نستفيدها من هذه الآية الكريمة ( بالإضافة إلى كونها "فضيلة" تفرد بها الإمام علي عليه السلام)

والجواب: إن هذه القصة - التي تضمنتها الآية الكريمة - تكشف لنا عن نوعين من "الإيمان":

أحدهما: إيمان تضحية.

وثانيهما: إيمان المصالح.

في "إيمان التضحية" يكون الفرد المؤمن "جندياً تحت الطلب" أي أنه يستعد لتنفيذ كل القرارات، والتضحية بكل ما يملك من مال وأهل ونفس في سبيل الله والقيم والمبادئ. أما صاحب "الإيمان المصلحي" فهو يسير في ركاب الدين ما دام هذا الدين لا يضر بمصالحه ولا يكلفه شيئاً، أما عندما يكلفه الدين مصالحه الشخصية فهو يترك الدين، ويضرب به عرض الحائط.3

وقد تجلى "إيمان المصالح" في أولئك الأغنياء الذين التفوا حول الرسول (عليه السلام) وكانوا يكثرون من مناجاته والتحدث إليه، فما أن وصل الأمر إلى الإنفاق والبذل حتى انقطعوا عن الرسول، وتركوه وحيداً في داره.4

(3)

يقول القرآن الكريم: ((وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ))5

في البداية ينبغي أن نلقي نظرة على شأن نزول هذه الآية الكريمة، ففي تفسير القمي:

لقي رسول الله (عليه السلام) الجد بن قيس، فقال له: "يا أبا وهب ألا تنفر معنا في هذه الغزوة؟ /غزوة تبوك/"

فقال: "يا رسول الله، والله إن قومي ليعلمون أنه ليس فيهم أحد أشد عجباً بالنساء، وإني أخاف إن خرجت معك أن لا أصبر إذا رأيت بنات الأصفر /أي بنات الروم/، فلا تفتني وأذن لي أن أقيم."

وقال لجماعة من قومه: "لا تخرجوا في الحر."

فأنزل الله على رسوله في ذلك هذه الآية6

إن هذا المشهد التاريخي يمثل لنا التبرير بأجلى صوره وأشكاله. إنه ليس مجرد تبرير عادي (كالتبرير بالحر والبرد وما أشبه) بل إنه تبرير ديني بمعنى أنه يتخذ من الدين ستاراً لتبرير الهروب من المسؤلية "ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني." وهو - أيضاً - لم يرد بصيغة عادية، بل صاحبته مختلف عوامل التأكيد (من القسم و"ان" و"اللام" التأكيدين وغير ذلك) كما نلاحظ في الحديث الشريف.

ولكن هذا المنطق التبريري ليس خاصاً على رجل تاريخي اسمه الجد بن قيس وكنيته "أو <أبو> وهب"، وليس خاصاً بحقبة معينة اندثرت في طيات الماضي العتيق. إنه نموذج يتكرر في كل زمان ومكان، ولكن بأنماط وصور مختلفة.

فالذين يعتذرون عن تحمل مسؤولياتهم الدينية، ويقضون أعمارهم في زوايا البيوت بحجة أنهم يخافون على أنفسهم من الانزلاق أو الكبرياء أو الضلال أو ما شابه، والذين يرفضون الانتماء إلى جبهة الحق بحجة أن هذا الانتماء قد يعرضهم لمطاردة السلطات والقبض عليهم وربما انهيارهم وانحرافهم، كل هؤلاء - وآخرون غيرهم - يمكن اعتبارهم نماذج جديدة تكرر موقفاً مشابهاً لموقف الجد بن القيس، وهم - مثله تماماً - يرددون تبريرات كثيراً ما تلبس بغطاء ديني.

ولكن ليسمعوا كلام الله: ((أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ))7.

هذه كانت بعض النماذج السريعة حول الفهم الواقعي للقصص القرآنية، وهنالك نماذج أخرى كثيرة (مثلاً قصة آدم عليه السلام؛ قصة موسى عليه السلام وفرعون؛ قصة يوسف عليه السلام؛ قصة مؤمن آل فرعون؛ قصة صاحب الجنتين؛ قصة أصحاب الكهف...)، وبإمكان القراء الكرام أن يقوموا بـ"الفهم الواقعي" لها. مستعينين في ذلك بروايات الأئمة الطاهرين (عليهم الصلاة والسلام)، وبالتفكير المنطقي السليم.

ثالثاً: فهم الأبعاد الحقيقة

ونستعرض فيما يلي نموذجين لـ"عدم فهم الأبعاد الحقيقة" للآيات القرآنية.

(1)

يقول القرآن الكريم: ((ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى، وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي، اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي، اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى، قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى، فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى))8.

ما الذي تدل عليه هذه الآيات الكريمة؟

1. إن هناك حاكماً طغى وتجبر وتعدى كل الحدود، هذا الحاكم كان يعيش مع فئة معينة في القمة، بينما كانت طبقات الشعب من بني إسرائيل تعيش في الحضيض، وليس ذلك فقط، بل إن هذا الحاكم صادر - كذلك - حرية هذا الشعب، وجعله يرزح تحت سياط التعذيب.

2. وفي مثل هذا الواقع الخانق أرسل الله - من قبله - رسولاً هو موسى (عليه السلام)، فماذا كانت مهمة هذا الرسول؟

القرآن الكريم يؤكد أن "العمل السياسي" من أجل تحرير الجماهير المستضعفة كان في طليعة المهمات التي ألقيت على عاتق هذا الرسول، ومن هنا فإن الخطاب الأول من قبل موسى (عليه السلام) لفرعون كان دعوة صريحة إلى إطلاق حريات الشعب الإسرائيلي، ورفع أغلال الكبت والإرهاب عنهم: ((فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ))، وهل "العمل السياسي" غير هذا؟

فما بال البعض يقولون بأن الدين لا شأن له بالسياسة؟ (بصورتها النزيهة - بالطبع). ما بالهم يرددون بأن على رجل الدين أن ينتقل بين البيت والمسجد، وإذا تجاوز هذا النطاق فإنما ينبغي أن يكون ذلك لعيادة مريض أو تشييع جنازة وليس أكثر من ذلك. ما بالهم يقولون أن مهمة رجل الدين تنحصر في صلاة الجماعة وبيان بعض مسائل الطهارة والنجاسة ونحو ذلك، أما السياسة فهي كفر وشر ونفاق، وأن على رجل الدين أن لا يلوث نفسه باعتابها الدنسة.

ألم يكن موسى (عليه السلام) رجل دين؟ أم <ألم> تكن أول كلمة قالها دعوة تحرير سياسية؟

(2)

يقول القرآن الكريم: ((وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً))9

قال في "الميزان": "والقبلة في الأصل بناء نوع من المصدر كجلسة، أي الحالة التي يحصل بها التقابل بين الشيء وغيره، فهو مصدر بمعنى الفاعل، أي اجعلوا بيوتكم متقابلة يقابل بعضها بعضاً وفي جهة واحدة."10

وعلى هذا فإننا نستفيد من هذه الآية الكريمة درساً عظيماً في أسلوب العمل وهو أن على الفئة الرسالية أن تزيد من التلاحم الداخلي فيما بين أعضائها حتى لا تتسرب إليها سلبيات المجتمع الجاهلي الكبير، وحتى تستطيع أن تبني نفسها بشكل قوي ورصين، تماماً كما تنغلق البذرة على ذاتها في التربة، وتمتص كل الأملاح والعناصر الضرورية للحياة، وبعدئذ تخرج من التربة عالية الرأس؛ جميلة القوام، وهذا هو ما مارسته الحركات الناجحة على امتداد التاريخ البشري، وهذا هو أيضاً ما مارسه بنو إسرائيل - بأمر من موسى (عليه السلام) - في خلال مراحل نموهم الأولى11 كما يبدوا لنا من خلال هذه الآية الكريمة.

التالي

الفهرست

السابق

(1) سورة المجادلة - 12
(2) البرهان - ج 4 - ص 309
(3) عن هذا الطراز من المؤمنين يقول القرآن الكريم: ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ /طرف أو جانب/ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)) (الحج - 11)، ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ)) (العنكبوت - 10)
(4) قال في "الميزان": ففي قوله "وتاب الله عليكم" (عقيب آية التصديق) دلالة على كون ذلك منهم ذنباً ومعصية، غير أن الله غفر لهم) راجع الميزان - ج 19 - ص 190 (ط 2)
(5) سورة التوبة - 49
(6) تفسير الصافي - المجلد الأول - ص 705
(7) لقد طبقت فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذه الآية الكريمة على عصرها الذي كانت تعيش، وذلك في الخطبة التي ألقتها على جمع المهاجرين والأنصار، بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). قالت: "فوسمتم غير ابلكم، وأوردتم غير مشربكم، هذا، والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لمّا يندمل، والرسول لما يقبر. ابتداراً زعمتم خوف الفتنة ((أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ))."
(8) سورة طه - 40 - 48
(9) سورة يونس - 87
(10) الميزان - ج 10 - ص 114 (الطبعة الثالثة)
(11) لقد تعرض القرآن قبل بضع آيات إلى بني إسرائيل كانوا في تلك الحالة فئة قليلة في طور التكوين حين قال: ((فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ)) (يونس - 83)