التالي

الذين يفهمون القرآن كتب موت (3)

السابق

ثانياً: الفهم التاريخي

الفهم التاريخي للقرآن الكريم يعني أحد أمرين:

الأول: تلقي قصص القرآن الكريم كمجرد قصص تاريخية الهدف منها ذاتها، من دون النفوذ إلى العبر الكامنة وراءها. هذا القسم يفهم التاريخ كأحداث مضت، ويفهم قصص القرآن كقصص أفراد غابرين، ويكتفي بهذا القدر من فهم التاريخ دون أن يمارس مع ذلك فهماً آخر هو "الفهم العبروي".

الثاني: تلقي القصص القرآنية كقصص مرتبطة بذوات خاصة وأفراد معينين، من دون اعتبار هذه القصص رمزاً ونموذجاً حياً يتكرر في كل زمان ومكان.

فالقرآن ذكر قصة الحاكم الطاغية "فرعون"،

والوزير المداهن "هامان"،

والعالم الذي كان في القمة، ثم هوى إلى الحضيض "بلعم بن باعوراء"،

والشجرة الطيبة "أهل البيت"،

والشجرة الخبيثة "بني أمية" ... و ...

كل ذلك مفهوم لدى هذا القسم، إنه يعرف التاريخ الذي مضى تماماً، ولكنه يجهل - أو يتجاهل - التطبيقات الحية الواقعية لهذه "الرموز". إنه لا يريد أن يعرف "فرعون" و"هامان" و"بلعم" الذين يعيشون في عصره، لأن ذلك يعني ضرب كثير من قيمه وعلاقاته الاجتماعية ومصالحه، ولذلك فهو يعوض عن جهله بحاضره بمعرفته بتاريخه الذي مضى وراح.

والدين يرفض كلا النوعين من "الفهم".

1. فالقرآن يؤكد أن ما ورد فيه من قصص هي "للعبرة" فيقول:

- ((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ)) إلى أن يقول ((فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ))1.

- ((قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ))2.

- ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ /أي الرسل/ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ))3.

- ((فَأَخَذَهُ اللَّهُ /أي أخذ فرعون/ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى))4.

وماذا يعني الاعتبار؟ "إنه لغوياً يعني العبور من شيء إلى شيء آخر، ولهذا سمي الدمع بـ’العبرة‘ لأنه ينتقل من العين إلى الخد، وسمي الجسر 'معبراً' لأنه به تحصل المجاوزة، وسميت الألفاظ 'عبارات' لأنها تنقل المعاني من قلب المتكلم إلى عقل المستمع، ويقال: 'السعيد من اعتبر بغيره' لأنه ينتقل بعقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه."5

وفي هذه الآيات تعني "العبرة"، العبور من القصة إلى مغزاها وتجاوز سطور التاريخ لاستشفاف ما وراء هذه السطور.

2. وتؤكد الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) أن لقصص القرآن نماذج حية في كل زمان ومكان.

أ - فعن الفضيل بن يسار، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) (الإمام الصادق) عن هذه الرواية: "ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن". قال: "ظهره تنزيله، وبطنه تأويله. منه ما مضى، ومنه ما لم يجيء بعد، يجري كما تجري الشمس والقمر." وفي خبر آخر: "يكون على الأموات كما يكون على الأحياء." والإمام الصادق (عليه السلام) يعني بالظهر المصداق للآية قبل ألف وأربعمائة سنة. أما البطن فهو المصداق الباطني للآية، أي المصاديق المتكررة في كل زمان ومكان والتي ينطبق عليها مفهوم الآية، ولذلك جاء في الحديث: "إن لكل ظهر بطنا".

والسؤال - الآن: لماذا شبهت الرواية القرآن الكريم بالشمس والقمر؟

والجواب: إن الشمس والقمر يشرقان كل يوم على شيء جديد، وكذلك القرآن إنه ينطبق كل يوم على مصداق جديد ليس خاصاً لجيل دون آخر أو لزمان دون زمان أو مكان دون مكان، بل هو لكل زمان ولكل مكان. وكما أن الشمس والقمر يبددان الظلمات ويضيئان من حولنا الأشياء، كذلك القرآن إنه يضيء لنا طرق الحياة، ويكشف ما خفي علينا من الأمور.

ب - عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال لحمران: "ظهر القرآن الذي نزل فيهم، وبطنه الذين عملوا بمثل أعمالهم، يجري فيهم ما نزل في أولئك."

ج - عن أبي بصير، عن الصادق (عليه السلام): "ولو كانت إذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية لمات الكتاب، ولكنه حي يجري فيمن بقي، كما جرى فيمن مضى."

د - عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): "... ولو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء، ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات والأرض."

هـ - عن أبي عبد الله (عليه السلام): "إن القرآن حي لم يمت، وإنه يجري كما يجري الليل والنهار وكما تجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أولنا."6

إذن، فمن الخطأ "التسمر" في فهم القرآن على أفراد معينين أو على حقب معينة. من الخطأ أن ندفن آيات القرآن في قبو الماضي السحيق، بل يجب تطبيق القرآن تطبيقاً حياً على الواقع الذي نعيش وعلى الأفراد الذين نتعامل معهم ضمن هذا الواقع من الحاكم والتاجر والقوى الاجتماعية وسائر فئات الشعب.

وفيما يلي نستعرض بعض النماذج عن "الفهم الواقعي" مقابل "الفهم التاريخي" للقرآن الكريم:

(1)

يقول القرآن الكريم: ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ، يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ، قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ))7

كيف يفسر أصحاب "الفهم التاريخي" هذه المجموعة من الآيات؟

"إن هذه المجموعة من الآيات تكشف عن عناد اليهود وخبث طينتهم وتمردهم على قرارات قيادتهم الرشيدة، لقد دعاهم موسى (عليه السلام) إلى قتال 'العمالقة' واستخدم في سبيل ذلك كل عوامل الترغيب والترهيب إلا أنهم أبوا، وسخروا من موسى (عليه السلام) ومن ربه - كذلك."

ويستطردون قائلين: "قاتل الله اليهود، كم جرعوا نبيهم من الغصص، وكم أذاقوه من الآلام!"

هذا - إذاً - كل ما هو في الأمر، وينتهي - بعدئذ - كل شيء. هذه المجموعة من الآيات - وعشرات مثلها - لا تهدف إلا النيل من مجموعة بشرية معينة - هم اليهود - وتسجيل اللعنة عليهم على امتداد التاريخ.

ولكن لنتساءل: هل الأمر - فعلاً - هو كذلك؟ إن مشكلة هؤلاء هي أنهم نظروا إلى هذه "القصة القرآنية" كقصة مضت وانتهت، ولم يحاولوا أن يعرفوا الواقع القائم، ولم يسعوا من أجل تطبيق ما حدث في الماضي السحيق على الواقع القائم. بينما نجد أن الروايات الشريفة تؤكد على أن الأمة الإسلامية سوف تسير على خطى اليهود8: "حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتم معهم،" كما جاء في الحديث الشريف، وهذا يدفعنا إلى البحث عن المصاديق الجديدة للقصص التي نقلها القرآن عن اليهود.

والآن، لنلقي نظرة "واقعية" على هذه الآيات:

1. لقد أراد بنو إسرائيل الوصول إلى الأهداف الضخمة المرسومة لهم دون أن يبذلوا أي جهد أو تعب، عندما قالوا: ((وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ)). لقد أرادوا النصر عليهم من السماء على طبق من ذهب، وهم جالسون في أماكنهم دون أن يتحملوا مسؤولية أو يعملوا شيئاً، لقد أرادوا "المدينة المقدسة" لقمة سهلة باردة. ولكن سنن الله في الكون تأبى ذلك9، ومن هنا فإنهم ليس فقط لم يصلوا إلى الهدف، بل - وأيضاً - تلقوا عقاباً إليماً صارماً نتيجة الكسل والتقاعس.

أليس هذا الواقع ذاته يتكرر الآن عند مجموعة من المسلمين؟ أليس هؤلاء يقبعون في زوايا البيوت، وينتظرون الوصول إلى أهدافهم المنشودة من دون سعي أو عمل؟ والنتيجة؟

النتيجة هي - بالطبع - خيبة الأمل والسقوط - أيضاً - تماماً كما حدث لبني إسرائيل.

2. لقد استبدل بنو إسرائيل التواكل بالتوكل. فعندما طلب "الرجلان اللذان أنعم الله عليهما من بني إسرائيل" أن يقتحموا أسوار المدينة ويتوكلوا على الله - أن يجمعوا بين السعي والاعتماد القلبي على الله؛ بين الغيب والشهود - عندما طلبا منهم ذلك قالوا: "إذهب أنت يا موسى وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون،" وعندئذ، وبدل أن يتوكلوا على الله تواكلوا، بمعنى أنهم نفضوا أيديهم من المسؤولية، وألقوها على الله سبحانه.

والآن، لننتقل بقلوبنا من الماضي السحيق إلى الواقع القائم، ولنتساءل: كم يتكرر هذا المشهد في واقعنا كل يوم؟ أليس الكثيرون منا يستبدلون بالتوكل التواكل؟10 بل أليس الكثيرون يعتبرون التوكل هو التواكل؟ وهكذا سارت أمتنا على خطى بني إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة والقذة <بالقذة> كما تنبأ بذلك من قبل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).11

التالي

الفهرست

السابق

(1) سورة الحشر - 2
(2) سورة آل عمران - 13
(3) سورة يوسف - 111
(4) سورة النازعات - 25 0 26
(5) التفسير الكبير - ج 29 - ص - 282 (الطبعة الثانية - بتصرف).
(6) اقتبسنا هذ الروايات من مقدمة كتاب "البرهان في تفسير القرآن" - ص 5 - (طبعة دار الكتب العلمية - إيران)
(7) سورة المائدة - 20 - 26
(8) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "والذي نفسي بيده، لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لا تخطئون طريقهم، ولا تخطأكم سنة بني إسرائيل." (راجع "الصافي في تفسير القرآن" - المجلد الأول - ص 434 - الطبعة الخامسة)، (وأيضاً "البرهان في تفسير القرآن" - المجلد الأول - ص 456 - دار الكتب العلمية - إيران)
(9) جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام): "أبى الله أن يجري الأشياء إلا بالأسباب" (بحار الأنوار - ج 2 - ص - 90 ط مؤسسة الوفاء)
(10) يعتبر القرآن الكريم التوكل رديفاً للعمل، وليس بديلا عنه، فيقول ((ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ... وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ))، كما جاء في الآية السابقة. ويقول ((فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ)) (آل عمران - 159)
(11) لقد طبق "المقداد" هذه الآية تطبيقاً واقعياً وذلك حين شاور الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين في الخروج إلى بدر، فقال المقداد: "يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: "اذهب أنت وربك إنا هاهنا قاعدون"، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد /يعني الحبشة/ لجالدنا معك من دونك حتى تبلغه." فقال رسول الله: "خيراً،" ودعا له بخير. (راجع تاريخ الطبري - غزوة بدر - ص 140 - الطبعة الثانية).