التالي

التجزئة الموضوعية (2)

السابق

رابعا: الجمع الموضوعي

و"الجمع الموضوعي" يعني فرز الآيات القرآنية التي تتحدث حول موضوع معين، وتصنيفها إلى مجموعات، وترتيب هذه المجموعات حسب تسلسلها المنطقي، ومن ثم: استخراج الحكم القرآني النهائي حول ذلك الموضوع.

ويختلف "الجمع الموضوعي" عن "الجمع الاستنباطي" في نقاط كثيرة منها:

  1. "الجمع الاستنباطي" يتم - عادة - ضمن آيتين أو ثلاث، فهو جمع محدود، بينما "الجمع الموضوعي" يتم - عادة - ضمن مجموعة كبيرة من الآيات.

  2. "الجمع الاستنباطي" تكون نتيجته - غالباً - حكماً شرعياً - بالمعنى المتداول لهذه الكلمة، بينما تتسع آفاق "الجمع الموضوعي" لتشمل كثيراً من القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها.

  3. "الجمع الاستنباطي" يقتصر على فئة محدودة من "الراسخين في العلم" باعتبار صعوبة استخراجه، بينما تفتح أبواب "الجمع الموضوعي" - لا فرق - لمجموعة أكبر.

والحقيقة أن "الجمع الموضوعي" و"الفهم الموضوعي" لآيات القرآن الكريم يعتبر من أهم أنواع "الجمع القرآني" ولذلك لسببين:

الأول: الميزات التي يتمتع بها هذا النوع من الجمع، والتي أسلفنا بعضها قبل قليل.

الثاني: المعطيات والنتائج التي يفرزها هذا النوع من الجمع - والتي من أهمها الخروج برؤية قرآنية متكاملة حول موضوع معين.

والآن، لنستعرض نموذجاً واحداً من "الجمع الموضوعي" لآيات القرآن - مع مراعاة الاختصار - لتكون نافذة متواضعة، تفتح أمام عيون القراء الكرام الآفاق الواسعة للفهم الموضوعي لآيات القرآن الكريم.

الشفاعة، ماذا تعني؟

عندما نلقي نظرة موضوعية على الآيات التي تتحدث حول الشفاعة نجدها تنقسم إلى أربعة مجموعات:

المجموعة الأولى: لا للشفاعة

ويندرج ضمن هذه المجموعة كل الآيات التي تنفي الشفاعة، والتي تنقسم إلى أربعة أقسام:

  1. الآيات التي تنفي الشفاعة بشكل مطلق، وينحصر هذا القسم في الآية الكريمة التالية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ))1.

  2. الآيات التي تنفي الشفاعة التي كان تصورها اليهود، والتي سوف نتحدث عنها فيما بعد، يقول القرآن الكريم:

  • ((يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ))2،

  • ويقول: ((يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ))3.

  1. الآيات التي تؤكد أن لا شفاعة للكفار في يوم القيامة، مثل:

  • ((يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ))4،

  • ((وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ، وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ، مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ، فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ، قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ، تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ، فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ، وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ))5،

  • ((وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ))6.

  1. الآيات التي تنفي أن تملك الأصنام المعبودة الشفاعة، مثل:

  • ((وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ))7،

  • ((وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ))8،

  • ((وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ))9،

  • ((أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ))10،

  • ((أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ))11.

المجموعة الثانية: الشفيع هو الله

المجموعة الثانية هي مجموعة الآيات التي تصرح بأن الشفاعة مختصة بالله تعالى، وليس هناك شفيع غيره، وفي هذا المجال يقول القرآن:

  • ((وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ))12

  • ((وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ))13

  • ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ))14

  • ((قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ))15

المجموعة الثالثة: هنالك شفعاء، ولكن بعد إذن الله

ونقرأ من هذه المجموعة الآيات التالية:

  • ((مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ))16

  • ((مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ))17

المجموعة الرابعة: شروط خاصة

ونقرأ من هذه المجموعة الآيات التالية:

  • ((وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا، لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا))18

  • ((وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى))19

  • ((وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى))20

  • ((يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا))21

  • ((مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ))22

والآن، لنلق نظرة تحليلية - ولكن موجزة - حول هذه المجموعات القرآنية:

1. المجموعة الأولى من الآيات الواردة حول الشفاعة لا تتناقض مع بقية المجموعات ذلك لأن سائر المجموعات تثبت أقساماً معينة من الشفاعة، وهذه المجموعة تنفي أقساماً أخرى لا ترتبط بالأولى - لا من قريب ولا من بعيد - فهذه المجموعة تنفي:

  1. الشفاعة الاعتباطية التي لا تتقيد بقيد أو شرط - كما هو مورد القسم الأول من المجموعة الأولى23.

  2. الشفاعة التي كان يحلم بها اليهود الذين كانوا يقولون: "إننا أولاد الأنبياء، ومهما كانت ذنوبنا ثقيلة، فإن آباءنا سوف يشفعون لنا." هذا النوع من الشفاعة مرفوض في رؤية القرآن، وذلك لأن مجرد الانتساب إلى عائلة الرسالة لا تكفي تبريراً للانحراف عن خط الله تعالى، ومن ثم انتظار الرحمة الإلهية والغفران الإلهيين من دون أي جهد وتعب.

  3. كما أن الكفار الذين قطعوا علاقتهم مع الله واتخذوا من دونه أوثانا وشركاء - هؤلاء - لا يمكن أن تقبل شفاعة أحد في حقهم يوم القيامة.

  4. ومن الطبيعي أن الأصنام المعبودة من دون الله لا يمكن أن تقوم بمهمة الشفاعة، خلافاً لكل التصورات الجاهلية التي كانت تقدس الأصنام لتقريبهم إلى الله زلفى ولتقوم بمهمة الشفاعة لهم عند الله.

2. وإذا تجاوزنا عن هذه الأقسام الأربعة من الشفاعات المرفوضة نصل إلى الشفاعة المقبولة. هذه الشفاعة - كما تؤكد ذلك المجموعة الثانية - هي مختصة بالله، ويعني ذلك أن من سوى الله لا يستطيع أن يشفع للعصاة باستقلاله. إذن، فالشفاعة الاستقلالية هي مختصة بالله، بينما الشفاعة التبعية يمكن أن تكون نصيب الآخرين24.

3 . إذن، فإن هناك شفعاء آخرين من دون الله، إلا أنهم لا يستطيعون أن يشفعوا إلا من بعده إذنه، وهو ما نؤكده المجموعة الثالثة من آيات الشفاعة.

4. ولكن متى يأذن الله؟ إن المجموعة الرابعة هي التي تجيبنا على هذا السؤال، فهي تحدد شروطاً خاصة في المشفوع له، ومن دون توفر الشروط فإن الله سبحانه لا يؤذن بالشفاعة. وهذه الشروط هي: أن يكون المشفوع له مرضيا لله، ومتخذاً عند الرحمن عهداً، وبعبارة أخرى أن يكون الخط العام في حياته خطاً إلهيا سليماً، وعندئذ تتكفل الشفاعة سائر انحرافاته الجزئية25.

إلى هنا نختم حديثنا حول "الجمع الموضوعي" لآيات القرآن الكريم، ورغم وجود نماذج أخرى كثيرة في إطار هذا الموضوع، وعلى القراء الكرام أن يحاولوا القيام بـ"الجمع الموضوعي" لآيات القرآن في المواضيع التي تشغل تفكيرهم لكي يخرجوا برؤية قرآنية شاملة حول تلك المواضيع.

  التالي

  الفهرست

السابق

(1) سورة البقرة - 254
(2) سورة البقرة - 47، 48
(3) سورة البقرة - 122، 123
(4) سورة الأعراف - 53
(5) سورة الشعراء - 91 - 100
(6) سورة المدثر - 46 - 48
(7) سورة الأنعام - 94
(8) سورة يونس - 18
(9) سورة الروم - 13
(10) سورة الزم - 43
(11) سورة يس - 23
(12) سورة الأنعام - 51
(13) سورة الأنعام - 70
(14) سورة السجدة - 4
(15) سورة الزمر - 44
(16) سورة البقرة - 255
(17) سورة يونس - 3
(18) سورة مريم - 86، 87
(19) سورة الأنبياء - 28
(20) سورة النجم - 26
(21) سورة طه - 109
(22) سورة غافر - 18
(23) والذي يؤيد ذلك أمران:
أ - أن ذلك هو مقتضى الجمع بين الآيات المختلفة الواردة في الشفاعة.
ب - قوله تعالى: ((وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ
شَفَاعَةٌ)) (البقرة - 254)، فكما أن المنفي في جملة "ولا خلة" هو الخلة الباطلة، بدليل قوله تعالى في آية أخرى ((الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)) (الزخرف - 67)، فكذلك المنفي في قوله "ولا شفاعة" هو الشفاعة الباطلة.
(24) كما أن علم الغيب مختص بالله، لكن بمعنى أن أحداً لا يستطيع - باستقلاله - أن يخرق حجب الغيب، ولكنه يستطيع بالتبع وعطاء الله أن يطلع على ذلك. يقول القرآن الكريم ((قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)) (النحل - 65)، ويقول: ((وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ
عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء)) (فيطلعهم على الغيب) (آل عمران - 179)، وليس بين الآيتين أي تناقض، فالأولى تنفي أن يطلع أحد على الغيب باستقلاله سوى الله، بينما في الآية الثانية تؤكد أن من الممكن أن يمنح الله لبعض رسله علم الغيب، فيكونعلمهم بالغيب علماً تبعياً لا استقلاليا.
(25) هنا لابد أن نشير إلى نقطتين:
الأولى: أننا اعتمدنا في هذا البحث - بحث الشفاعة - بشكل رئيسي على الدراسة المفصلة التي كتبها الأستاذ الشيخ جعفر سبحاني تحت عنوان "شفاعت درقلمرو: عقل، قرآن، وحديث" باللغة الفارسية.
الثانية: أننا اختصرنا هذا البحث إلى أبعد الحدود، وذلك لكي لا يخرج عن موضوع الكتاب، ومن أراد التفاصيل فعليه بالكتاب المذكور.