وأخيراً

محمد قاسم خضير

حينما كنت طالباً في الولايات المتحدة الأمريكية كنت أتجول ذات يوم خارج منزلي أفكر في أمور كثيرة، فإذا بالآية التالية تخطر في ذهني: "يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب" (الحج ـ 73). عندها توقفت عن المشي وقلت لنفسي: "نعم! نحن نعرف أنه من المستحيل أن يخلق الإنسان ذباباً،" ففي اعتقادي أنه من الممكن أن نجمع أجزاء الذبابة ونركبها مع بعضها البعض لكي نحصل على حشرة كاملة منها (قد لا نصل إلى هذا في وقتنا الحاضر، ولكن دعنا نقول أن هذا قد يحدث في الزمن القريب إن شاء الله)، ولكن من المستحيل أن نوظف المواد الخام اللازمة من الأرض لبناء ذبابة من هذه المواد. وعندها تذكرت برنامجاً علمياً شاهدته على جهاز التلفاز، وهذا البرنامج دعم فكرتي هذه. كان موضوع البرنامج هو المحاولة لخلق الخلايا الابتدائية التي تكونت مع بداية خلق الأرض بعد تهيئة كافة الأجواء المناسبة لها للنشوء، علما بأن هذه الأجواء مطابقة للأجواء التي كانت تمر فيها الأ رض في بداياتها مع إضافة عامل السرعة للحصول على نتائج مبكرة. (ثم لنتذكر أن الأحياء لها روح، والروح لا يمكن صنعها بالإمكانيات المادية وإنما هي من أمر الله).

بعدها فكرت قليلا في بقية الآية والتي يقول سبحانه فيها "وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب". يخاطبنا الله سبحانه في هذه الآية عن العجز الذي يقابلنا عند محاولتنا لاسترجاع ما سلبته الذبابة منا. الآن! إذا قلنا وحسب الآية الكريمة أنه من المستحيل أن يخلق العلماء الذبابة فالسؤال هو: كيف لا يمكننا أخذ ما سلبته الذبابة منا، وخصوصاً أن العلم الحديث بأجهزته الدقيقة يمكننا من تشريح ما هو أقل من الذبابة حجماً؟ وبهذه الأجهزة الدقيقة حتماً سنحصل على الطعام التي سلبته الذبابة منا. وعلى فرض أنه لا نستطيع استرجاع ما استطعمته الذبابة اليوم فإننا قد نتمكن من صنع ما يمكننا من الوصول إلى ذلك، أليس كذلك؟ عند هذه الفكرة توقفت الأفكار كلها وأردت معرفة الحل لهذه الورطة الفكرية.

بالطبع لم تتوفر لدي أية وسيلة في تلك الأيام للحصول على الجواب الشافي لهذه المعضلة، فلم تكن لدي كتب التفسير، ولم أفكر في أن أبحث في الكتب العلمية عن موضوع الذبابة. وكنت أؤجل بحث هذا الموضوع لحينما أزور الكويت في العطل، ولكن انشغالي هناك جعلني أنسى هذا الموضوع تماماً، وعند رجوعي إلى الولايات المتحدة تذكرت وأوقعت نفسي في تلك الدوامة الفكرية من جديد.

لاحظ أن الآية تبدأ بتصريح مهم وهو: "يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له" وكما في تفسير تقريب القرآن هذا الجزء من الآية هو "تأكيد الالفات لينتفش في الذهن أكثر." أي أن المثل هذا في غاية الأهمية. وهذا بالضبط ما لفت انتباهي بشدة لهذه الآية، وهو السبب الذي أشغلت فكري مدة ثلاث سنوات قبل أن أتوصل إلى (ما أعتقده) الحقيقة.

إن والدي من الذين يهوون العلم الذي يختص بطبائع الحيوانات، وهو من الناس الذين يحبون أن يرون قدرة الله سبحانه في مخلوقاته. فالعلم دائما يكشف عن أسرار الحيوانات. والعين التي ترى بوضوح تستطيع أن تلمح عظمة الله في كل مخلوق. وفي أحد الأيام أراد أن يشاهد فيلم يتحدث عن الحشرات، فطلب مني مشاهدته معه. وكعادتي كنت قد نسيت موضوع الآية الكريمة التي تتحدث عن الذبابة، فإذا بفقرة قصيرة في هذا الفيلم تتكلم عن الذبابة وكيفية تناولها للطعام تقفز أمامي لتذكرني بالآية الكريمة.

ورأيت الذبابة تمد فمها من أسفل رأسها إلى السطح المقابل له، مكونة بذلك أنبوبا لامتصاص الطعام، وإذا نظرت بدقة إلى الأنبوب الماص لوجدت أن الطرف الملامس لسطح الطعام متسعاً وكأنه مكنسة كهربائية. بعد ذلك تبدأ الذبابة بفرز إنزيم ليمكنها من تحليل الطعام وتحويله إلى مادة سائلة لمساعدتها على امتصاصه خلال الأنبوب. لذلك فالذبابة تبدأ بهضم الطعام قبل أن يدخل إلى جسمها.

عند هذه المعلومة بدأت البحث في الكتب العلمية التي تتحدث عن الحشرات، فوجدت أن الذبابة هذه، والتي تسمى بالذبابة المنزلية، تمتلك خاصية تحليل الطعام خارج جسمها. ووجدت أن الإنزيم ( البروتينات المركبة) يعمل على تفكيك الطعام إلى مركبات بسيطة (الإنزيم يفكك الجزيئات التي يتكون منها الطعام، كما وصفه لي أحد الأساتذة في قسم الأحياء في جامعة الكويت).

ماذا يعني كل هذا؟ وما علاقة طريقة هضم الذبابة لطعامها بالآية الكريمة؟ لاحظ معي أسلوب الآية في طرح فكرة الإعجاز الأبدي. فالآية تقول أن الطالب لا يمكنه استنقاذ ما سلبته الذبابة لا بسبب العجز في الآلات المستخدمة، ولكن لأن الطعام الذي دخل في جوف الذبابة لم يعد نفسه الطعام الذي سلبته. والعجز يأتي من أن الطعام وحتى قبل دخوله إلى ماصة فم الذبابة طرأ عليه التغيير، فلهذا السبب لا نستطيع استنقاذه. فإن قام العلماء باستخراج ما ببطن الذبابة فإنه لن يكون هو نفسه الطعام الذي سلبته الذبابة، وإنما يحتاج إلى تجميع مركباته التي قد تفتتت. ولاحظ لو أراد العلماء أخذ الطعام من فم الذبابة ولو من بداية دخوله الماصة، فإن ذلك لن يجدي شيئاً، وذلك لأن الطعام قد تحول إلى مركبات مختلفة تماماً حتى قبل امتصاصه. لذلك "لا يستنقذوه منه" أبداً.

إشارة أخيرة هنا إلى تفسير الآية الكريمة، فقد وجدت أن أغلب التفاسير تقول أن الذي لا يستطيع استنقاذ ما سلبته الذبابة هو الأصنام التي كان يعبدها الكفار آنذاك، وفي الميزان "عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كانت قريش تلطخ الأصنام التي كانت حول الكعبة بالمسك والعنبر، وكان يغوث قبال الباب ويعوق عن يمين الكعبة، وكان نسر عن يسارها. وكانوا إذا دخلوا خرّوا سجداً ليغوث ولا ينحنون ثم يستديرون بحيالهم إلى يعوق ثم يستديرون عن يسارها بحيالهم إلى نسر ثم يلبون فيقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. قال: فبعث الله ذباباً أخضر له أربعة أجنحة، فلم يبق من ذلك المسك والعنبر إلا أكله، وأنزل الله عز وجل: ( يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له) الآية." وفي تفسير آخر "من هدى القرآن" للعلامة السيد محمد تقي المدرسي وجدت أنه يربط الآية بعجز الإنسان بدلا من عجز الأصنام في النيل من الذبابة فيقول: "وهكذا يكون عجز البشر ظاهراً إذ أنهم لا يقدرون على استعادة ما يأخذه الذباب عنهم." لذلك فقد اتجهت في هذا البحث إلى أبعد احتمالات التفسير، وهي التي تربط عجز الإنسان وليس فقط الأصنام التحايل على الذبابة.