يتكون القرآن
الكريم من كلمات تماماً كما
يتكون البناء من لبنات، ولذلك
فمن الطبيعي أن تكون الخطوة
الأولى لفهم القرآن هي التدبر في
الكلمات القرآنية. ومع الأسف،
فإن بعضا ممن يقرأون القرآن لا
يقومون بهذه المهمة، ولذلك فهم:
إما أن لا
يفهموا معاني الكلمات،
أو يفهموها
بشكل مغلوط،
أو بشكل
باهتٍ لا يعكس المدلول
الدقيق للكلمة.
وعن هذه الظاهرة
الثالثة ننقل فقرات من كتاب "بحوث
في القرآن الحكيم":
بالرغم من
أن اللغة العربية أشمل وأدق
وأجمل اللغات في أنها تعطي
لكل حقيقة لفظاً قريبا
يتناسب معها تماما، وبالرغم
من أن العرب اختاروا لكل
تطور ينشأ في شيء لفظا يخصه
ويوحي إلى تلك الحقيقة
متلبسة بذلك التطور،
وبالرغم من أن هذا وذلك، فإن
الكلمات العربية اكتنفها
الغموض، مما أفقد إيحاء
اللفظ وظلاله.
فلم نعد -
نحن العرب - نملك رهافة الحس
/لنعرف الفرق/ الذي كان بين
لفظتي "قَرُبَ" و "اقْتَرَبَ"
أو "فَكَّرَ" و "افْتَكَرَ"،
حتى لم نعد نعرف الفرق بين
كلمتي "سار" و "سارب"
و "دلك" و "أولج"
وما أشبه.
ويعود ذلك إلى:
أولا: كثرة
استعمال الألفاظ في غير
معانيها الأدبية. فحينما
يستعمل العربي كلمة "قرب"
في المجال المحدد لـ: "اقترب"
أو حتى كلما "سار" في
موضع كلمة "سارب" تختلط
ظلال الكلمتين مع بعضهما
وتضيع الإيحاءات الخاصة.
ثانيا:
تعلقت أذهاننا بمعاني جامدة
ومحددة كـ"ألفاظٍ عربية"،
وفقدنا الشعور بمحور شعاع
الكلمة. فنحن حينما نستعمل
كلمة "جن" يتبادر إلى
أذهاننا المخلوق الغريب دون
أن نفكر ولا لحظة حول ارتباط
كلمة "ج ن ن" مع هذا
المخلوق. ونستعمل كلمة "جنين"
دون أن نعرف أن هناك علاقة
تتناسب بين معنى الولد في
بطن أمه "جنين" ومعنى
المخلوق الغريب "جن"
وهي أن كليهما مستور عن أعين
الناس.
وكذلك نطلق
لفظة "الخمر" للدلالة
على السائل المسكر، ونطلق
لفظة "الخمار" للدلالة
على الساتر لوجه المرأة،
ونلاحظ أن علاقة اللفظين
ببعضهما إنما هي من ناحية
الستر، فهذا يستر الوجه
وتلك تستر العقل.
وهكذا
تتداخل إيحاءات اللفظ
العربي ببعضه، ونفقد بذلك
فهم أهم سمة من سمات اللغة
العربية، التي لو فهمناها
يسهل علينا فهم القرآن
كثيراً.
من هنا
يتوجب علينا الخروج من
الفهم التقليدي للألفاظ
العربية نحو أفق أسمى يشتم
المعنى الإيحائي العام
منها، وهذا الخروج ضروري
لفهم القرآن الحكيم، إذ أنه
في قمة البلاغة التي تتلخص
في رعاية التناسب الشامل
بين الموضوع واللفظ وبين
الواقع والتعبير، فيكون كشف
المنحنيات التفسيرية
والإيحاءات اللفظية ذا
أهمية خاصة في القرآن أكثر
من أية كتاب آخر، لأنها
معنية في بشكل لا يوصف.
يبقى
السؤال عن كيفية الخروج،
والجواب على الفرد:
1. أن يتجرد
أولا عن موحيات المناخ
الفكري الذي يصور له معنى
جامداً للفظ.
2. ثم الرجوع
إلى المادة الأساسية التي
تجمع التصريفات للكلمة،
والتفكير في المعنى المناسب
لربط المجموعات باللفظ،
فمثلا: نجمع معاني يعرشون،
عرشا، معروشات، ونعود إلى
تصريفات اللفظ الأخرى:
عريش، وعريش - وما أشبه -
لنستنبطها جميعا من البناء
الفوقي، لأنه يجمع معني
سرير الملك والبناء
والمرفوع وسيباط الكرم
والخيمة من الخشب. هذه
المعاني التي ذكرها العرب
لهذه الألفاظ.
3. قياس
موارد استعمال اللفظ
ببعضها، ليعرف المعنى
المشترك الذي يمكن أن يتصور
جامعا بين هذه الموارد، ومن
الطبيعي أن يعتبر في
الاستعمال أن يكون على لسان
أهل اللغة المعتنين
بالبلاغة.
وإذا كان
قياس موارد الاستعمال
ببعضها أفضل السبل لمعرفة
المعنى الحقيقي للفظ ما،
فإن أفضل قياس من هذا النوع
هو قياس موارد استعمال
الكلمة في القرآن ذاته، إذ
انه - ولا ريب - ذروة البلاغة
العربية التي عجز عن تحديها
أبلغ فصحاء العرب.
من هنا،
يجدر بالذي يريد التدبر في
القرآن ذاته، أن يبحث عن
المعنى المحدد للكلمة في
آيات القرآن ذاته، ليجد -
بقياس بعض المواضع
المستعملة فيهما الكلمة
ببعضها، ليجد بذلك المعنى
الدقيق - الذي يقصده القرآن.1
فتأمل...
فيما يلي نستعرض
لأمثلة حول "التدبر في الكلمة
القرآنية".
(1)
يقول القرآن
الكريم: ((مَا كَانَ
إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا
وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن
كَان حَنِيفًا مُّسْلِمًا))2،لكي نفهم
كلمة "حنيف" التي احتوت
عليها الآية الكريمة، ونعود إلى
اللغة، لنجد المواضع التي
استخدمت فيها هذه الكلمة، ثم
لنستنبط من هذا المجموع المعنى
العام. فنجد في اللغة: حنف: مال،
وحنف رجله: جعلها حنفاء، وحنف
اعوجت رجله إلى داخل فهي حنفاء،
وحوانف - الحنفاء: القوس، وهكذا،
ونستنتج من كل ذلك أن معنى "حنف"
هو "مال"، ونعود إلى
التفسير لنجده يؤكد المعنى ذاته3.
وعلى هذا فيكون
معنى الآية: "إن إبراهيم كان
مائلا عن كل المبادئ الزائفة،
مسلماً لله وحده." ذلك أن
للإيمان دعامتين: رفض كل القيم
والأصنام والمبادئ الزائفة،
والتسليم المطلق لله سبحانه -
وحده لا شريك له. فالإيمان يتلخص
في كلمة رفض تشمل كل الآلهة
والأصنام: "لا إله"،
واستثناء واحد ينبثق من ضمير هذا
الرفض المطلق: "إلا الله".
وبهذا تنهار كل الحلول الوسطى
وكل المحاولات التوفيقية بين
الله وبين الأصنام، مهما كان اسم
الأصنام أو شكلها، وبهذا - أيضا -
نعرف خطأ أولئك الذين يحاولون
الجمع بين الله وسائر الآلهة.
(2)
يقول القرآن
الكريم: ((لَقَدْ
أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى
قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ
اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم
مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ
أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ
يَوْمٍ عَظِيم، قَالَ الْمَلأُ
مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ
فِي ضَلاَلٍ مُّبِين))4. قد يبدوا
للنظرة العابرة أن كلمة "الملأ"
في هذه الآية تعني "الجماهير"،
وعلى هذا الأساس فإن الذي كفروا
بنوح وغيره من الأنبياء كانوا
عامة الناس5.
وهنا يثار السؤال
التالي: لماذا كفرت الجماهير
برسالات الأنبياء؟ ألم تكن
رسالات الأنبياء تدعوا الناس
إلى فطرتهم وضمائرهم؟
والحقيقة أننا لو
فتشنا حول مدلول كلمة "الملأ"
لوجدناها أنها تعني: "أشراف
القوم الذين يملأون العيون
والصدور هيبة،" كما تؤكده
معاجم اللغة العربية، وكتب
التفسير6. ومن هنا
نستنتج أن الذين كفروا برسالات
الأنبياء لم يكونوا "الجماهير"،
وإنما كانوا "الأشراف" و
"الوجهاء"، كما نستنتج من
ذلك أن رفضهم لرسالات الأنبياء
لم يكن من أجل عدم اقتناعهم بها،
وإنما من أجل الحفاظ على مصالحهم
الشخصية.
|