مجمع البيان

سورة القيامة

26 - 40

كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)

القراءة

قرأ حفص و رويس يمنى بالياء و الباقون بالتاء.

الحجة

قال أبو علي من قرأ بالتاء حمله على النطفة أي لم يك نطفة تمنى من مني و من قرأ بالياء حمله على المني أي من مني يمني يقدر خلق الإنسان و غيره منها قال:

منت لك أن تلقى ابن هند منية و فارس مياس إذا ما تلببا

و قال آخر:

لعمر أبي عمرو لقد ساقه المنى      إلى جدث يؤزى له بالأهاضب

أي ساقه القدر.

اللغة

التراقي جمع الترقوة و هو مقدم الحلق من أعلى الصدر تترقى إليه النفس عند

الموت و إليه يتراقى البخار من الجوف و هناك تقع الحشرجة قال ذو الرمة:

و رب عظيمة دافعت عنها      و قد بلغت نفوسهم التراقي

و الراقي طالب الشفاء رقاه يرقيه رقية إذا طلب له شفاء بأسماء الله الشريفة و آيات كتابه العظيمة و أما العوذة فهي دفع البلية بكلمات الله تعالى و تقول العرب قامت الحرب على ساق يعنون شدة الأمر قال:

فإذ شمرت لك عن ساقها      فويها ربيع و لا تسأم

و المطي تمدد البدن من الكسل و أصله أن يلوي مطاه أي ظهره و قيل أصله يتمطط فجعل إحدى الطائين ياء و هو من المط بمعنى المد كقولهم تظنيت و أمليت و نحو ذلك و نهى عن مشية المطيطاء و ذلك أن يلقي الرجل يديه مع التكفي في مشيته.

أولى لك كلمة وعيد و تهديد قالت الخنساء:

هممت بنفسي كل الهموم      فأولى بنفسي أولى لها

و السدي المهمل و العلقة القطعة من الدم المنعقد.

الإعراب

في إعراب أولى وجوه (أحدها) أن يكون مبتدأ و خبره لك (و الآخر) أن يكون خبر مبتدإ محذوف تقديره الشر أولى لك فعلى هذا يكون اللام في لك للاختصاص كأنه قال الشر أولى لك من الخير و يجوز أن يكون بمعنى من تقديره الشر أقرب منك و سدى منصوب على الحال من قوله «يترك».

المعنى

ثم بين سبحانه حالهم عند النزع فقال «كلا» أي ليس يؤمن الكافر بهذا و قيل معناه حقا «إذا بلغت» النفس أو الروح و لم يذكره لدلالة الكلام عليه كما قال ما ترك على ظهرها من دابة يعني على ظهر الأرض «التراقي» أي العظام المكتنفة بالحلق و كنى بذلك عن الإشفاء على الموت «و قيل من راق» أي و قال من حضره من أهله هل من راق أي طبيب شاف يرقيه و يداويه فلا يجدونه عن أبي قلابة و الضحاك و قتادة و ابن زيد قال قتادة التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من عذاب الله شيئا و قيل إن معناه قالت الملائكة من يرقى بروحه أ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب عن ابن عباس و مقاتل قال أبو العالية تختصم فيه ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب أيهم يرقي روحه و قال الضحاك أهل الدنيا يجهزون البدن

و أهل الآخرة يجهزون الروح «و ظن أنه الفراق» أي و علم عند ذلك هذا الذي بلغت روحها تراقيها أنه الفراق من الدنيا و الأهل و المال و الولد و الفراق ضد الوصال و هو بعاد الألاف و جاء في الحديث أن العبد ليعالج كرب الموت و سكراته و مفاصله يسلم بعضها على بعض يقول عليك السلام تفارقني و أفارقك إلى يوم القيامة «و التفت الساق بالساق» قيل فيه وجوه (أحدها) التفت شدة أمر الآخرة بأمر الدنيا عن ابن عباس و مجاهد (و الثاني) التفت حال الموت بحال الحياة عن الحسن (و الثالث) التفت ساقاه عند الموت عن الشعبي و أبي مالك لأنه يذهب القوة فيصير كجلد يلتف بعضه ببعض و قيل هو أن يضطرب فلا يزال يمد إحدى رجليه و يرسل الأخرى و يلف إحداهما بالأخرى عن قتادة و قيل هو التفاف الساقين في الكفن (و الرابع) التف ساق الدنيا بساق الآخرة و هو شدة كرب الموت بشدة هول المطلع و المعنى في الجميع أنه تتابعت عليه الشدائد فلا يخرج من شدة إلا جاءه أشد منها «إلى ربك يومئذ المساق» أي مساق الخلائق إلى المحشر الذي لا يملك فيه الأمر و النهي غير الله تعالى و قيل يسوق الملك بروحه إلى حيث أمر الله تعالى به إن كان من أهل الجنة فإلى عليين و إن كان من أهل النار فإلى سجين و المساق موضع السوق «فلا صدق و لا صلى» أي لم يتصدق بشيء و لم يصل لله «و لكن كذب» بالله «و تولى» عن طاعته عن الحسن و قيل معناه لم يصدق بكتاب الله و لا صلى الله و لكن كذب بالكتاب و الرسول و أعرض عن الإيمان عن قتادة «ثم ذهب إلى أهله يتمطى» أي يرجع إليهم يتبختر و يختال في مشيته و قيل إن المراد بذلك أبو جهل بن هشام «أولى لك فأولى» و هذا تهديد من الله له و المعنى وليك المكروه يا أبا جهل و قرب منك و جاءت الرواية أن رسول الله أخذ بيد أبي جهل ثم قال له أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى فقال أبو جهل بأي شيء تهددني لا تستطيع أنت و لا ربك أن تفعلا بي شيئا و إني لأعز أهل هذا الوادي فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قيل معناه الذم أولى لك من تركه إلا أنه حذف و كثر في الكلام حتى صار بمنزلة الويل لك و صار من المحذوف الذي لا يجوز إظهاره و قيل هو وعيد على وعيد عن قتادة و معناه وليك الشر في الدنيا وليك ثم وليك الشر في الآخرة وليك و التكرار للتأكيد و قيل بعدا لك من خيرات الدنيا و بعدا لك من خيرات الآخرة عن الجبائي و قيل أولى لك ما تشاهده يا أبا جهل يوم بدر فأولى لك في القبر ثم أولى لك يوم القيامة فلذلك أدخل ثم فأولى لك في النار «أ يحسب الإنسان» يعني أبا جهل «أن يترك سدى» مهملا لا يؤمر و لا ينهى عن ابن عباس و مجاهد و الألف للاستفهام و المراد الإنكار أي لا ينبغي أن يظن ذلك و قيل أنه عام أي أ يظن الإنسان الكافر بالبعث الجاحد لنعم الله أن يترك مهملا من غير أمر يؤخذ به فيكون فيه

تقويم له و إصلاح لما هو أعود عليه في عاقبة أمره و أجمل به في دنياه و آخرته «أ لم يك نطفة من مني يمنى» أي كيف يظن أن يهمل و هو يرى في نفسه و من تنقل الأحوال ما يمكنه أن يستدل به على أن له صانعا حكيما أكمل عقله و أقدره و خلق فيه الشهوة فيعلم أنه لا يجوز أن يخليه من التكليف و معنى قوله «يمنى» أي يقدر و قيل معناه يصب في الرحم «ثم كان علقة فخلق» منها خلقا في الرحم «فسوى» خلقه و صورته و أعضاءه الباطنة و الظاهرة في بطن أمه و قيل فسواه إنسانا بعد الولادة و أكمل قوته و قيل معناه فخلق الأجسام فسواها للأفعال و جعل لكل جارحة عملا يختص بها «فجعل منه» أي من الإنسان «الزوجين الذكر و الأنثى» و قيل من المني و هذا إخبار من الله سبحانه أنه لم يخلق الإنسان من المني و لم ينقله من حال إلى حال ليتركه مهملا فإنه لا بد من غرض في ذلك و هو التعريض للثواب بالتكليف «أ ليس ذلك» الذي فعل هذا «بقادر على أن يحيي الموتى» هذا تقرير لهم على أن من قدر على الابتداء قدر على البعث و الإحياء فإن من قدر على جعل النطفة علقة و العلقة مضغة إلى أن يجعلها حيا سليما مركبا فيه الحواس الخمس و الأعضاء الشريفة التي يصلح كل منها لما لا يصلح له الآخر و خلق الزوجين الذكر و الأنثى الذين يصح بهما التناسل فإنه يقدر على إعادته بعد الموت إلى ما كان عليه من كونه حيا و جاء في الحديث عن البراء بن عازب قال لما نزلت هذه الآية «أ ليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى» قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سبحانك اللهم و بلى و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) و في الآية دلالة على صحة القياس العقلي فإنه سبحانه اعتبر النشأة الثانية بالنشأة الأولى.

العودة إلى القائمة

النهاية