مجمع البيان

سورة مريم

21 - 30

تابع
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)

المعنى

« قال كذلك » أي قال لها جبرائيل حين سمع تعجبها من هذه البشارة الأمر كذلك أي كما وصفت لك « قال ربك هو علي هين » أي إحداث الولد من غير زوج للمرأة سهل متأت لا يشق علي « و لنجعله آية للناس » معناه و لنجعله علامة ظاهرة و آية باهرة للناس على نبوته و دلالة على براءة أمه « و رحمة منا » له و لنجعله نعمة منا على الخلق يهتدون بسببه « و كان أمرا مقضيا » أي و كان خلق عيسى من غير ذكر أمرا كائنا مفروغا عنه محتوما قضى الله سبحانه بأن يكون و حكم به « فحملته » أي فحملت مريم بعيسى فحبلت في الحال قيل إن جبرائيل أخذ ردن قميصها بإصبعه فنفخ فيه فحملت مريم من ساعتها و وجدت حس الحمل و قيل نفخ في كمها فحملت عن ابن جريج و روي عن الباقر (عليه السلام) إنه تناول جيب مدرعتها فنفخ فيه نفخة فكمل الولد في الرحم من ساعته كما يكمل الولد في أرحام النساء تسعة أشهر فخرجت من المستحم و هي حامل محج مثقل فنظرت إليها خالتها فأنكرتها و مضت مريم على وجهها مستحية من خالتها و من زكريا « فانتبذت به مكانا قصيا » أي تنحت بالحمل إلى مكان بعيد و قيل معناه انفردت به مكانا بعيدا من قومها حياء من أهلها و خوفا من أن يتهموها بسوء و اختلفوا في مدة حملها فقيل ساعة واحدة قال ابن عباس: لم يكن بين الانتباذ و الحمل إلا ساعة واحدة لأنه تعالى لم يذكر بينهما فصلا لأنه قال « فحملته فانتبذت به » « فأجاءها » و الفاء للتعقيب و قيل حملت به في ساعة و صور في ساعة و وضعته في ساعة حين زاغت الشمس من يومها و هي بنت عشر سنين عن مقاتل و قيل كانت مدة حملها تسع ساعات

و هذا مروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) و قيل ستة أشهر و قيل ثمانية أشهر و كان ذلك آية و ذلك أنه لم يعش مولود وضع لثمانية أشهر غيره « فأجاءها المخاض » أي ألجأها الطلق أي وجع الولادة « إلى جذع النخلة » فالتجأت إليها لتستند إليها عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و السدي و قيل أجاءها أي جاء بها قال ابن عباس: نظرت مريم إلى أكمة فصعدت مسرعة إليها فإذا عليها جذع نخلة نخرة ليس لها سعف و الجذع ساق النخلة و الألف و اللام دخلت للعهد لا للجنس أي النخلة المعروفة فلما ولدت « قالت يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسيا منسيا » أي شيئا حقيرا متروكا عن ابن عباس و قيل شيئا لا يذكر و لا يعرف عن قتادة و قيل حيضة ملقاة عن عكرمة و الضحاك و مجاهد قال ابن عباس: فسمع جبرائيل كلامها و عرف جزعها « فناداها من تحتها » و كان أسفل منها تحت أكمة « ألا تحزني » و هو قول السدي و قتادة و الضحاك أن المنادي جبرائيل ناداها من سفح الجبل و قيل ناداها عيسى عن مجاهد و الحسن و وهب و سعيد بن جبير و ابن زيد و ابن جرير و الجبائي و إنما تمنت (عليهاالسلام) الموت كراهية لأن يعصي الله فيها و قيل استحياء من الناس أن يظنوا بها سوءا عن السدي و روي عن الصادق (عليه السلام) لأنها لم تر في قومها رشيدا ذا فراسة ينزهها من السوء « قد جعل ربك تحتك سريا » أي ناداها جبرائيل أو عيسى ليزول ما عندها من الغم و الجزع لا تغتمي قد جعل ربك تحت قدميك نهرا تشربين منه و تتطهرين من النفاس عن ابن عباس و مجاهد و سعيد بن جبير قالوا و كان نهرا قد انقطع الماء عنه فأرسل الله الماء فيه لمريم و أحيا ذلك الجذع حتى أثمر و أورق و قيل ضرب جبرائيل (عليه السلام) برجله فظهر ماء عذب و قيل بل ضرب عيسى برجله فظهرت عين ماء تجري و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) و قيل السري عيسى (عليه السلام) عن الحسن و ابن زيد و الجبائي و السري و هو الشريف الرفيع قال الحسن كان و الله عبدا سريا « و هزي إليك بجذع النخلة » معناه اجذبي إليك بجذع النخلة و الباء مزيدة و قال الفراء: العرب تقول هزه و هز به « تساقط عليك رطبا جنيا » مر معناه و قال الباقر (عليه السلام) لم تستشف النفساء بمثل الرطب إن الله أطعمه مريم في نفاسها و قالوا إن الجذع كان يابسا لا ثمر عليه إذ لو كان عليه ثمر لهزته من غير أن تؤمر به و كان في الشتاء فصار معجزة بخروج الرطب في غير أوانه و بخروجه دفعة واحدة فإن العادة أن يكون نورا أولا ثم يصير بلحا ثم بسرا و روي أنه لم يكن للجذع رأس فضربته برجلها فأورقت و أثمرت و انتثر عليها الرطب جنيا و الشجرة التي لا رأس لها لا تثمر في العادة و قيل إن تلك النخلة كانت برنية و قيل كانت عجوة و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) « فكلي و اشربي » أي كلي يا مريم من هذا الرطب و اشربي من هذا الماء « و قري عينا » جاء في التفسير و طيبي نفسا و قيل معناه لتقر عينك سرورا بهذا الولد الذي ترين لأن

دمعة السرور باردة و دمعة الحزن حارة و قيل معناه لتسكن عينك سكون سرور برؤيتك ما تحبين « فإما ترين من البشر أحدا » فسألك عن ولدك « فقولي إني نذرت للرحمن صوما » أي صمتا عن ابن عباس و المعنى أوجبت على نفسي لله أن لا أتكلم و قيل صوما أي إمساكا عن الطعام و الشراب و الكلام عن قتادة و إنما أمرت بالصمت ليكفيها الكلام ولدها بما يبري‏ء به ساحتها عن ابن مسعود و ابن زيد و وهب و قيل كان في بني إسرائيل من أراد أن يجتهد صام عن الكلام كما يصوم عن الطعام فلا يتكلم الصائم حتى يمسي يدل على هذا قوله « فلن أكلم اليوم إنسيا » أي إني صائم فلن أكلم اليوم أحدا و كان قد أذن لها أن تتكلم بهذا القدر ثم تسكت و لا تتكلم بشي‏ء آخر عن السدي و قيل كان الله تعالى أمرها بأن تنذر لله الصمت و إذا كلمها أحد تومى‏ء بأنها نذرت لله صمتا لأنه لا يجوز أن يأمرها بأن تخبر بأنها نذرت و لم تنذر لأن ذلك كذب عن أبي علي الجبائي « فأتت به قومها تحمله » أي فأتت مريم بعيسى حاملة له و ذلك أنها لفته في خرقة و حملته إلى قومها « قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا » أي أمرا عظيما بديعا إذ لم تلد أنثى قبلك من غير رجل عن مجاهد و قتادة و السدي و قيل أمرا قبيحا منكرا من الافتراء و هو الكذب عن الجبائي « يا أخت هارون » قيل فيه أقوال (أحدها) أن هارون هذا كان رجلا صالحا في بني إسرائيل ينسب إليه كل من عرف بالصلاح عن ابن عباس و قتادة و كعب و ابن زيد و المغيرة بن شعبة يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قيل إنه لما مات شيع جنازته أربعون ألفا كلهم يسمى هارون فقولهم يا أخت هارون معناه يا شبيهة هارون في الصلاح ما كان هذا معروفا منك (و ثانيها) أن هارون كان أخاها لأبيها ليس من أمها و كان معروفا بحسن الطريقة عن الكلبي (و ثالثها) أن هارون أخو موسى (عليه السلام) فنسبت إليه لأنها من ولده كما يقال يا أخا تميم عن السدي (و رابعها) أنه كان رجلا فاسقا مشهورا بالعهر و الفساد فنسبت إليه و قيل لها يا شبيهته في قبح فعله عن سعيد بن جبير « ما كان أبوك امرأ سوء و ما كانت أمك بغيا » أي كان أبواك صالحين فمن أين جئت بهذا الولد « فأشارت إليه » أي فأومت إلى عيسى (عليه السلام) بأن كلموه و استشهدوه على براءة ساحتي فتعجبوا من ذلك ثم « قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا » معناه كيف نكلم صبيا في المهد و قيل صبيا في الحجر رضيعا و كان المهد حجر أمه الذي تربيه فيه إذ لم تكن هيأت له مهدا عن قتادة و قيل إنهم غضبوا عند إشارتها إليه و قالوا لسخريتها بنا أشد علينا من زناها فلما تكلم عيسى (عليه السلام) قالوا إن هذا الأمر عظيم عن السدي « قال » عيسى (عليه السلام) « إني عبد الله » قدم إقراره بالعبودية ليبطل به قول من يدعي له الربوبية و كان الله سبحانه أنطقه بذلك لعلمه بما يقوله الغالون فيه ثم قال « آتاني الكتاب و جعلني نبيا » أي حكم لي بإتيان الكتاب و النبوة و قيل إن الله تعالى أكمل عقله في صغره و أرسله إلى عباده و كان نبيا مبعوثا إلى الناس في ذلك الوقت مكلفا عاقلا و لذلك كانت له

تلك المعجزة عن الحسن و الجبائي و قيل إنه كلمهم و هو ابن أربعين يوما عن وهب و قيل يوم ولد عن ابن عباس و أكثر المفسرين هو الظاهر و قيل إن معناه أني عبد الله سيؤتيني الكتاب و سيجعلني نبيا و كان ذلك معجزة لمريم (عليهاالسلام) على براءة ساحتها.

العودة إلى القائمة

التالي