مجمع البيان

سورة مريم

93 - 98

إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)

اللغة

اللدد شدة الخصومة و في التنزيل ألد الخصام أي أشد الخصام خصومة و جمع الألد لد قال الشاعر:

إن تحت الأشجار حزما و عزما      و خصيما ألد ذا معلاق

أي شديد الخصومة و الركز الصوت الخفي و أصل الركز الحس و منه الركاز لأنه يحس به مال من تقدم بالكشف عنه قال ذو الرمة:

و قد توجس ركزا من سنابكها      أو كان صاحب أرض أو به الموم

الأرض الرعدة و الموم البرسام و أصل الإحساس الإدراك بالحاسة.

الإعراب

كل مبتدأ و من في موضع خبر و الجار و المجرور من صلته و « أتى الرحمن » في موضع رفع خبر كل و هو مضاف إلى المفعول و وحد كلا على اللفظ و عبدا في موضع الحال من الضمير من أتى و « هل تحس منهم من أحد » من الأولى يتعلق بتحس و الثانية مزيدة و يجوز أن يكون تقديره هل تحس أحدا منهم و يكون منهم في موضع الصفة لأحد فلما قدم على الموصوف انتصب على الحال.

المعنى

ثم قال سبحانه « إن كل من في السماوات و الأرض إلا أتى الرحمن عبدا » أي ما كل من في السماوات و الأرض من الملائكة و الإنس و الجن إلا و يأتي الله سبحانه عبدا مملوكا خاضعا ذليلا و مثله قوله و كل أتوه داخرين و المعنى أن الخلق عبيده خلقهم و رباهم و جرى عليهم حكمه و أن عيسى و عزيرا و الملائكة من جملة العبيد و في هذا دلالة على أن البنوة و العبودية لا يجتمعان و أنه إذا ملك الإنسان ابنه عتق عليه « لقد أحصاهم و عدهم عدا » أي علم تفاصيلهم و أعدادهم فكأنه سبحانه عدهم إذ لا يخفى عليه شي‏ء من أحوالهم « و كلهم آتيه يوم القيامة فردا » أي كل واحد منهم يأتي المحشر و الموضع الذي لا يملك الأمر فيه إلا الله فردا وحيدا مفردا ليس له مال و لا ولد و لا ناصر مشغولا بنفسه لا يهمه هم غيره ثم ذكر سبحانه المؤمنين فقال « إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا » قيل فيه أقوال (أحدها) أنها خاصة في علي بن أبي طالب (عليه السلام) فما من مؤمن إلا و في قلبه محبة لعلي (عليه السلام) عن ابن عباس و في تفسير أبي حمزة الثمالي حدثني أبو جعفر الباقر (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) قل اللهم اجعل لي عندك عهدا و اجعل لي في قلوب المؤمنين ودا فقالهما علي (عليه السلام) فنزلت هذه الآية و روي

نحوه عن جابر بن عبد الله الأنصاري (و الثاني) أنها عامة في جميع المؤمنين يجعل الله لهم المحبة و الألفة و المقة في قلوب الصالحين قال هرم بن حبان: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقهم مودتهم و رحمتهم و محبتهم و قال الربيع بن أنس: إن الله إذا أحب مؤمنا قال لجبرائيل إني أحببت فلانا فأحبه فيحبه جبرائيل ثم ينادي في السماء ألا إن الله أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له قبول في أهل الأرض فعلى هذا يكون المعنى يحبهم الله و يحببهم إلى الناس (و الثالث) أن معناه يجعل الله لهم محبة في قلوب أعدائهم و مخالفيهم ليدخلوا في دينهم و يعتزوا بهم (الرابع) يجعل بعضهم يحب بعضا فيكون كل واحد منهم عضدا لأخيه المؤمن و يكونون يدا واحدة على من خالفهم (و الخامس) أن معناه سيجعل لهم ودا في الآخرة فيحب بعضهم بعضا كمحبة الوالد لولده و في ذلك أعظم السرور و أتم النعمة عن الجبائي و يؤيد القول الأول ما صح عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني و لو صببت الدنيا بجملتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني و ذلك أنه قضى فانقضى على لسان النبي الأمي أنه قال لا يبغضك مؤمن و لا يحبك منافق ثم قال سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) « فإنما يسرناه بلسانك » أي يسرنا القرآن بأن أنزلناه بلسانك و هي لغة العرب ليسهل عليهم معرفته و لو كان بلسان آخر ما عرفوه عن أبي مسلم و قيل معناه يسرناه قراءة القرآن على لسانك و مكناك من قراءته عن الجبائي « لتبشر به المتقين » أي لتبشر بالقرآن الذين يتقون الشرك و الكبائر أي تخبرهم بما تسرهم مما أعده الله لهم « و تنذر به قوما لدا » أي شدادا في الخصومة عن ابن عباس يعني قريشا و قيل قوما ذوي جدل مخاصمين عن قتادة ثم أنذرهم سبحانه و خوفهم بقوله « و كم أهلكنا قبلهم من قرن » أي قبل هؤلاء من قرن مكذبين للرسل و فيه تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المعنى لا يهمنك كفرهم و شقاقهم فإن وبال ذلك راجع إليهم و قد أهلكنا قبلهم من كان مثلهم « هل تحس منهم من أحد » أي هل تبصر منهم أحدا « أو تسمع له ركزا » أي صوتا عن ابن عباس و قتادة و قيل حسا عن ابن زيد و المعنى أنهم ذهبوا فلا يرى لهم عين و لا يسمع لهم صوت و كانوا أكثر أموالا و أعظم أجساما و أشد خصاما من هؤلاء فلم يغنهم ذلك لما أردنا إهلاكهم فحكم هؤلاء الكفار حكم أولئك في أنه لا يبقى منهم عين و لا أثر و الحمد لله رب العالمين.

العودة إلى القائمة

النهاية