مجمع البيان

سورة مريم

83 - 92

أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)

القراءة

في الشواذ رواية قتادة عن الحسن يحشر المتقون و يساق المجرمون قال فقلت إنها بالنون يا أبا سعيد قال و هي للمتقين إذا و قراءة السلمي شيئا أدا بفتح الهمزة و قرأ أبو جعفر و ابن كثير و حفص « تكاد » بالتاء « يتفطرن » بالتاء و فتح الطاء مشددة و في عسق و مثله و قرأ نافع و الكسائي « يكاد » بالياء « يتفطرن » في السورتين و قرأ أبو عمرو و أبو بكر و هبيرة عن حفص و يعقوب « تكاد » بالتاء ينفطرن بالياء و النون و كسر الطاء في السورتين و قرأ ابن عامر و حمزة و خلف هاهنا « تكاد » بالتاء ينفطرن بالنون مثل أبي عمرو و في عسق تكاد بالتاء يتفطرن بالتاء أيضا.

الحجة

حجة من قرأ يحشر و يساق قوله تعالى « و سيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا » و الأد بالفتح القوة قال:

نضوت عني شرة و أدا فعلى هذا يمكن أن يكون المعنى لقد جئتم شيئا أد أي ذا قوة و إن شئت وصفته بالمصدر كقولهم رجل عدل و ضيف و الانفطار مطاوعة الفطر يقال فطرة فانفطر و التفطر مطاوعة التفطير يقال فطرته فتفطر و كأنه أليق بهذا الموضع لما فيه من معنى المبالغة و تكرير الفعل و ذهب أبو الحسن في معنى قوله « تكاد السماوات » إلى أن معنى تكاد تريد و كذلك قال في قوله كذلك كدنا ليوسف أي أردنا له و أنشد:

كادت و كدت و تلك خير إرادة      لو عاد من ذكر الصبابة ما مضى

و كذلك قوله في أكاد أخفيها أي أريد أخفيها و على هذا فسر غيره قول الأفوه:

فإن تجمع أوتاد و أعمدة      و ساكن بلغوا الأمر الذي كادوا

أي أرادوا قال: المعنى يردن لا أنهن ينفطرن و لا يدنون من ذلك و لكن من هممن به إعظاما لقول المشركين و لا يكون على من هم بالشي‏ء أن يدنو منه أ لا ترى أن رجلا لو أراد أن ينال السماء لم يدن من ذلك و قد كانت منه إرادة و قد قال بعض المتأولين في قوله تكاد السماوات يتفطرن منه هدا مثل كانت العرب إذا سمعت كذبا أو منكرا تعاظمته و عظمته بالمثل الذي عندها عظيما فقالت: كادت الأرض تنشق و أظلم علي ما بين السماء و الأرض فلما افتروا على الله الكذب ضرب مثل كذبهم بأهول الأشياء و أعظمها قال أبو علي: و مما يقرب من هذا قول الشاعر:

أ لم تر صدعا في السماء مبينا      على ابن لبينى الحارث بن هشام

و قول الآخر:

و أصبح بطن مكة مقشعرا      كان الأرض ليس بها هشام

و قال الآخر:

لما أتى خبر الزبير تواضعت      سور المدينة و الجبال الخشع

اللغة

الأز الإزعاج إلى الأمر يقال أزه يأزه أزا و أزيزا إذا هزه بالإزعاج إلى أمر من الأمور و أزت القدر أزيزا إذا غلت و منه الحديث أنه كان يصلي و أزيز جوفه كأزيز المرجل من البكاء و أززت الشي‏ء إلى الشي‏ء ضممته إليه و الوفد جمع وافد و قد يجمع وفودا أيضا وفد يفد وفدا و أوفد على الشي‏ء أشرف عليه و السوق الحث على السير ساقه يسوقه سوقا و منه الساق لاستمرار السير بها أو لأن القدم يسوقها و منه السوق لأنه يساق بها البيع و الشري شيئا بعد شي‏ء و الورد الجماعة التي ترد الماء يقال ورد الماء يرد وردا و الإد الأمر العظيم قال الراجز:

قد لقي الأعداء مني نكرا      داهية دهياء إدا إمرا

و الانفطار الانشقاق و التفطر التشقق و الهد الهدم بشدة صوت.

الإعراب

« تؤزهم » جملة في موضع الحال و مفعول « نعد لهم » محذوف و التقدير نعد أعمالهم عدا و يوم نحشر ظرف قوله « نعد لهم » و يجوز أن ينتصب بقوله « لا يملكون الشفاعة » أي لا يملكون في ذلك اليوم وفدا منصوب على الحال من المتقين أي وافدين و وردا كذلك أي واردين « إلا من اتخذ » هو موصول و صلة في موضع رفع لأنه بدل من الواو في يملكون و يجوز أن يكون في محل النصب لأنه استثناء منقطع فإن من اتخذ عند الرحمن عهدا لا يكون من المجرمين و قوله « تنشق الأرض » جملة معطوفة على الجملة التي قبلها و تقديره و تكاد الأرض تنشق و الجبال تخر و هذا منصوب على المصدر في المعنى تقديره تخر خرورا و تهد هدا و يجوز أن يكون في موضع الحال و أن دعوا مفعول له و التقدير لأن دعوا أي لأجل ذلك.

المعنى

ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال « أ لم تر » يا محمد « أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين » أي خلينا بينهم و بين الشياطين إذا وسوسوا إليهم و دعوهم إلى الضلال حتى أغووهم و لم نحل بينهم و بينهم بالإلجاء و لا بالمنع و عبر عن ذلك بالإرسال على سبيل المجاز و التوسع كما يقال لمن خلى بين الكلب و غيره أرسل كلبه عليه عن الجبائي و قيل معناه سلطناهم عليهم و يكون في معنى التخلية أيضا على ما ذكرناه « تؤزهم أزا » أي

تزعجهم إزعاجا من الطاعة إلى المعصية عن ابن عباس و قيل تغريهم إغراء بالشر تقول امض امض في هذا الأمر حتى توقعهم في النار عن سعيد بن جبير « فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا » معناه فلتطب نفسك يا محمد و لا تستعجل لهم العذاب فإن مدة بقائهم قليلة فإنا نعد لهم الأيام و السنين و ما دخل تحت العد فكان قد نفد و قيل معناه نعد أنفاسهم في الدنيا فهي معدودة إلى الأجل الذي أجلناه لعذابهم عن ابن عباس و هذا من أبلغ الوعيد و قيل معناه نعد أعمالهم على ما ذكرناه قبل « يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا » أي اذكر لهم يا محمد اليوم الذي نجمع فيه من اتقى الله في الدنيا بطاعته و اجتنب معاصيه إلى الرحمن أي إلى جنته و دار كرامته وفودا و جماعات عن الأخفش و قيل ركبانا يؤتون بنوق لم ير مثلها عليها رحائل الذهب و أزمتها الزبرجد فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) و ابن عباس « و نسوق المجرمين إلى جهنم وردا » أي و نحث المجرمين على المسير إلى جهنم عطاشا كالإبل التي ترد عطاشا مشاة على أرجلهم عن ابن عباس و الحسن و قتادة و سمي العطاش وردا لأنهم يردون لطلب الماء و قيل الورد النصيب أي هم نصيب جهنم من الفريقين و المؤمنون نصيب الجنة عن أبي مسلم « لا يملكون الشفاعة » أي لا يقدرون على الشفاعة فلا يشفعون و لا يشفع لهم حين يشفع أهل الإيمان بعضهم لبعض لأن ملك الشفاعة على وجهين (أحدهما) أن يشفع للغير (و الآخر) أن يستدعي الشفاعة من غيره لنفسه فبين سبحانه أن هؤلاء الكفار لا تنفذ شفاعة غيرهم فيهم و لا شفاعة لهم لغيرهم ثم استثنى سبحانه فقال « إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا » أي لا يملكون الشفاعة إلا هؤلاء و قيل لا يشفع إلا لهؤلاء و العهد هو الإيمان و الإقرار بوحدانية الله تعالى و تصديق أنبيائه و قيل هو شهادة أن لا إله إلا الله و أن يتبرأ إلى الله من الحول و القوة و لا يرجو إلا الله عن ابن عباس و قيل معناه لا يشفع إلا من وعد له الرحمن بإطلاق الشفاعة كالأنبياء و الشهداء و العلماء و المؤمنين على ما ورد به الأخبار و قال علي بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن سليمان بن جعفر عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من لم يحسن وصيته عند الموت كان نقصا في مروءته قيل يا رسول الله و كيف يوصي الميت قال إذا حضرته وفاته و اجتمع الناس إليه قال اللهم فاطر السماوات و الأرض عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم إني أعهد إليك في دار الدنيا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك و أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) عبدك و رسولك و أن الجنة حق و أن النار حق و أن البعث حق و الحساب حق و القدر و الميزان حق و أن الدين كما وصفت و أن الإسلام كما شرعت و أن القول كما حدثت و أن القرآن كما أنزلت و أنك أنت الله الحق المبين جزى الله محمدا عنا خير

الجزاء و حيا الله محمدا و آله بالسلام اللهم باعدني عند كربتي و يا صاحبي عند شدتي و يا ولي نعمتي و إلهي و إله آبائي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين فإنك إن تكلني إلى نفسي أقرب من الشر و أبعد من الخير و آنس في القبر وحشتي و اجعل له عهدا يوم ألقاك منشورا ثم يوصي بحاجته و تصديق هذه الوصية في سورة مريم في قوله « لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا » فهذا عهد الميت و الوصية حق على كل مسلم و حق عليه أن يحفظ هذه الوصية و يعلمها و قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) علمنيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قال علمنيها جبرائيل (عليه السلام) « و قالوا اتخذ الرحمن ولدا » هذا إخبار عن اليهود و النصارى و مشركي العرب فإن اليهود قالوا: عزير ابن الله و قالت النصارى: المسيح ابن الله و قال مشركو العرب: الملائكة بنات الله « لقد جئتم شيئا إدا » هاهنا حذف تقديره قل لهم يا محمد لقد جئتم بشي‏ء منكر عظيم شنيع فظيع فلما حذف الباء وصل الفعل إليه فنصبه « تكاد السماوات يتفطرن منه » أي أرادت السماوات أن تنشق لعظم فريتهم إعظاما لقولهم و معناه لو انشقت السماوات بشي‏ء عظيم لكانت تنشق من هذا « و تنشق الأرض » أي و كادت الأرض تنشق « و تخر الجبال » أي كادت الجبال تسقط « هدا » أي كسرا شديدا عن ابن عباس و قيل هدما عن عطاء « أن دعوا للرحمن ولدا » أي لأن دعوا للرحمن ولدا أو من دعوا للرحمن ولدا أي بسبب دعوتهم أو تسميتهم له ولدا « و ما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا » أي ما يصلح للرحمن و لا يليق به اتخاذ الولد و ليس من صفته ذلك لأن إثبات الولد له يقتضي حدوثه و خروجه من صفة الإلهية و اتخاذ الولد يدل على الحاجة تعالى عن ذلك و تقدس.

العودة إلى القائمة

التالي