مجمع البيان

سورة مريم

71 - 75

وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا (75)

القراءة

قرأ الكسائي و روح و زيد عن يعقوب ثم ننجي بالتخفيف و الباقون « ننجي » بالتشديد و قرأ ابن كثير مقاما بضم الميم و الباقون بفتحها و قرأ أهل المدينة غير ورش و ابن عامر و الأعشى و البرجمي عن أبي بكر و ريا بغير همز مشددة الياء و الباقون « و رئيا » مهموزة في الشواذ قراءة طلحة و ريا خفيفة بلا همز و قراءة سعيد بن جبير و زيا بالزاي.

الحجة

أنجاه ينجيه و نجاه ينجيه بمعنى و المصدر و اسم الموضع من باب يفعل يجي‏ء على مفعل فالمقام بفتح الميم يصلح أن يكون مصدرا من قام يقوم و يصلح أن يكون اسم الموضع و المقام المصدر و الموضع من أقام يقيم فأما قول زهير:

و فيهم مقامات حسان وجوههم      و أندية ينتابها القول و الفعل

فإنما هو على حذف المضاف أي أهل مقامات و مشاهد و روي عن الأصمعي أنه قال: المجلس القوم و أنشد:

و استب بعدك يا كليب المجلس قال أبو علي: المجلس موضع الجلوس فالمعنى على أهل المجلس كما أن المعنى على أهل المقامات قال السكري: المقامة المجلس و المقام المنزل و قوله « خير مقاما » من ضم الميم جعله اسما للمثوى و من فتح كان كذلك أيضا أ لا ترى أن الندي و النادي هما المجلس فمن ذلك قوله تعالى « و تأتون في ناديكم المنكر » و يدل على ذلك قوله « و كم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا و رئيا » فإنه لا يراد به الحدث إنما يراد به حسن الشارة و الهيأة و المنظر و هذا إنما يكون في الأماكن و أما قوله « و رئيا » قال أبو علي: رؤي فعل من رأيت فكأنه اسم لما ظهر و ليس المصدر و إنما المصدر الرأي و الرؤية يدل على ذلك قوله يرونهم مثليهم رأي العين فالرأي الفعل و الرئي المرئي كالطحن و الطحن و السقي و السقي و الرعي و الرعي و من خفف الهمزة من و رئيا لزم أن يبدل منها الياء لانكسار ما قبلها كما يبدل من ذئب و بئر فإذا أبدل منها الياء وقعت ساكنة قبل حرف مثله فلا بد من الإدغام و ليس يجوز الإظهار في هذا كما جاز إظهار الواو في نحو رؤيا و رؤية يعني إذا خففت الهمزة فيها لأن الياء في ريا قبل مثل و وقعت في رؤيا قبل ما يجري مجرى المقارب قال ابن جني: من قرأ و ريا مشددة فإنه فعل إما من رأيت و إما من رويت و أصله و هو من الهمزة و ريا كرعيا فخففت الهمزة و أبدلت ياء و أدغمت الياء الثانية و يجوز أن يكون من رويت لأن للريان نضارة و حسنا فيتفق معناه و معنى و زيا بالزاي و أصله على هذا زوي فأبدلت الواو ياء و أدغمت في الياء و أما ريا مخففة فيحتمل أن يكون مقلوبة من فعل إلى فلع فصار في التقدير رئيا ثم حذفت الهمزة و ألقيت حركتها على الياء قبلها فصارت ريا و يحتمل أن يكون ريا من رويت ثم خففت بحذف إحدى الياءين فصارت ريا و أما الزي بالزاي ففعل من زويت أي جمعت ذلك و ذلك أنه لا يقال لمن له شي‏ء واحد من آلته له زي حتى يكثر آلته المستحسنة و أنشد ابن دريد:

أهاجتك الظعائن يوم باتوا      بذي الزي الجميل من الأثاث

اللغة

الحتم القطع بالأمر و الحتم و الجزم و القطع بمعنى و الندي و النادي المجلس الذي قد اجتمع فيه أهله و منه دار الندوة و هي دار قصي بمكة و كانوا يجتمعون فيه للتشاور تيمنا به و قد ندوت القوم أندوهم إذا جمعتهم في مجلس و أصل الندي أنه مجلس أهل الندى و هو الكرم قال حاتم:

و دعيت في أولى الندي و لم      ينظر إلي بأعين خزر و الأثاث

المتاع من الفرش و الثياب التي تزين بها واحدها أثاثة و قيل لا واحد لها و الري ما يراه الرجل من ظاهر أحوال القوم و هو اسم للمرئي كالذبح اسم للمذبوح.

الإعراب

« و إن منكم إلا واردها » تقديره و ما أحد ثابت منكم فأحد مبتدأ و منكم صفة و واردها خبر و جثيا منصوب على الحال.

مقاما و نديا منصوبان على التمييز « كم أهلكنا » كم نصب بأهلكنا و التقدير كم قرنا أهلكنا من جملة القرون فحذف المميز بدلالة الكلام عليه « فليمدد له الرحمن مدا » لفظه لفظ الأمر و معناه خبر و التقدير فمد له الرحمن مدا و باب الأمر و الخبر يتداخلان فكما أن قوله « و المطلقات يتربصن » تقديره فليتربصن فجعل لفظ الخبر بمعنى الأمر فكذا هاهنا جعل لفظ الأمر بمعنى الخبر و قوله « ما يوعدون » مفعول رأوا و « إما العذاب و إما الساعة » بدل من ما يوعدون و قوله « من هو شر مكانا » تعليق فعلى هذا يكون هو فصلا و الفصل بين كلمة الاستفهام و خبره عزيز فالأولى أن يكون من هنا بمعنى الذي و في موضع نصب بسيعلمون و « هو شر » مبتدأ و خبر و الجملة صلة من.

المعنى

ثم بين سبحانه أحوالهم يوم الحشر فقال « و إن منكم إلا واردها » أي ما منكم أحد إلا واردها و الهاء في واردها راجعة إلى جهنم و اختلف العلماء في معنى الورود على قولين (أحدهما) أن ورودها هو الوصول إليها و الإشراف عليها لا الدخول فيها و هو قول ابن مسعود و الحسن و قتادة و اختاره أبو مسلم و استدلوا على ذلك بقوله تعالى « و لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون » و قوله تعالى فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه و بأنك تقول وردت بلد كذا و ماء كذا أي أشرفت عليه دخلته أو لم تدخله و في أمثال العرب إن ترد الماء بماء أكيس و قال زهير:

فلما وردن الماء زرقا جمامة      وضعن عصي الحاضر المتخيم

أراد فلما بلغن الماء أقمن عليه قال الزجاج: و الحجة القاطعة في ذلك قوله سبحانه « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها » فهذا يدل

على أن أهل الحسنى لا يدخلونها قالوا فمعناه إنهم واردون حول جهنم للمحاسبة و يدل عليه قوله « ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا » ثم يدخل النار من هو أهلها و قال بعضهم معناه إنهم واردون عرصة القيامة التي تجمع كل بر و فاجر (و الآخر) أن ورودها بمعنى دخولها بدلالة قوله تعالى « فأوردهم النار » و قوله « أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها » و هو قول ابن عباس و جابر و أكثر المفسرين و يدل عليه قوله « ثم ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها جثيا » و لم يقل و ندخل الظالمين و إنما يقال نذر و نترك للشي‏ء الذي قد حصل في مكانه ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم إنه للمشركين خاصة و يكون قوله « و إن منكم » المراد به منهم كما قال سبحانه و سقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء أي لهم و روي في الشواذ عن ابن عباس أنه قرأ و إن منهم و قال الأكثرون إنه خطاب لجميع المكلفين فلا يبقى بر و لا فاجر إلا و يدخلها فيكون بردا و سلاما على المؤمنين و عذابا لازما للكافرين قال السدي: سألت مرة الهمداني عن هذه الآية فحدثني أن عبد الله بن مسعود حدثهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال يرد الناس النار ثم يصدرون بأعمالهم فأولهم كلمع البرق ثم كمر الريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب ثم كشد الرجل ثم كمشيه و روى أبو صالح غالب بن سليمان عن كثير بن زياد عن أبي سمينة قال: اختلفا في الورود فقال قوم لا يدخلها مؤمن و قال آخرون يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا فلقيت جابر بن عبد الله فسألته فأومى بإصبعيه إلى أذنيه و قال صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول الورود الدخول لا يبقى بر و لا فاجر إلا يدخلها فتكون على المؤمنين بردا و سلاما كما كانت على إبراهيم حتى أن للنار أو قال لجهنم ضجيجا من بردها « ثم ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها جثيا » و روي مرفوعا عن يعلى بن منبه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال تقول النار للمؤمن يوم القيامة جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه سئل عن معنى الآية فقال إن الله تعالى يجعل النار كالسمن الجامد و يجمع عليها الخلق ثم ينادي المنادي أن خذي أصحابك و ذري أصحابي قال (صلى الله عليه وآله وسلم) فو الذي نفسي بيده لهي أعرف بأصحابها من الوالدة بولدها و روي عن الحسن أنه رأى رجلا يضحك فقال هل علمت أنك وارد النار قال نعم قال و هل علمت أنك خارج منها قال لا قال فبم هذا الضحك و كان الحسن لم ير ضاحكا قط حتى مات و قيل أن الفائدة في ذلك ما روي في بعض الأخبار أن الله تعالى لا يدخل أحدا الجنة حتى يطلعه على النار و ما فيها من العذاب ليعلم تمام فضل الله عليه و كمال لطفه و إحسانه إليه فيزداد لذلك فرحا و سرورا بالجنة و نعيمها و لا يدخل أحد النار حتى يطلعه على الجنة و ما فيها من أنواع النعيم و الثواب ليكون ذلك زيادة عقوبة له حسرة على ما فاته من الجنة و نعيمها و قال مجاهد: الحمى

حظ كل مؤمن من النار ثم قرأ « و إن منكم إلا واردها » فعلى هذا من حم من المؤمنين فقد وردها و قد ورد في الخبر أن الحمى من قيح جهنم و روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عاد مريضا فقال أبشر إن الله عز و جل يقول الحمى هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن في الدنيا لتكون حظه من النار و قوله « كان على ربك حتما مقضيا » أي كائنا واقعا لا محالة قد قضى بأنه يكون و على كلمة وجوب فمعناه أوجب الله ذلك على نفسه و فيه دلالة على أنه يجب عليه سبحانه أشياء من طريق الحكمة خلافا لم يذهب إليه أهل الجبر « ثم ننجي الذين اتقوا » الشرك و صدقوا عن ابن عباس « و نذر الظالمين » أي و نقر المشركين و الكفار على حالهم « فيها » أي في جهنم « جثيا » أي باركين على ركبهم و قيل جماعات على ما مر تفسيره و قيل المراد بالظالمين كل ظالم و عاص ثم قال سبحانه « و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات » و معناه و إذا يتلى على الكافرين آياتنا المنزلة في القرآن ظاهرات الحجج و الأدلة يمكن تفهم معانيها « قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما » أي قال الذين جحدوا وحدانية الله و كذبوا أنبياءه للذين صدقوا بذلك مستفهمين لهم و غرضهم الإنكار أي الفريقين أي أ نحن أم أنتم خير منزلا و مسكنا أي موضع إقامة « و أحسن نديا » أي مجلسا و إنما تفاخروا بالمال و زينة الدنيا و لم يتفكروا في العاقبة و لبسوا على الضعفة بأن من كان ذا مال في الدنيا فكذلك يكون في الآخرة ثم نبههم سبحانه على فساد هذا الاعتقاد بأن قال « و كم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا و رءيا » قال ابن عباس: الأثاث المتاع و زينة الدنيا و الرئي المنظر و الهيأة و المعنى أن الله تعالى قد أهلك قبلهم أمما و جماعات كانوا أكثر أموالا و أحسن منظرا منهم فأهلك أموالهم و أفسد عليهم صورهم و لم تغن عنهم أموالهم و لا جمالهم كذلك لا يغني عن هؤلاء و قيل إن المعني بالآية النضر بن الحارث و ذووه و كانوا يرجلون شعورهم و يلبسون خز ثيابهم و يفتخرون بشارتهم و هيأتهم على أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) « قل » يا محمد « من كان في الضلالة » عن الحق و العدول عن اتباعه « فليمدد له الرحمن مدا » هذا لفظ أمر معناه الخبر و تأويله أن الله سبحانه جعل جزاء ضلالته أن يمد له بأن يتركه فيها كما قال « و نذرهم في طغيانهم يعمهون » إلا أن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر فكأن المتكلم يقول أفعل ذلك و أمر نفسي به فالمعنى فليعش ما شاء و أضاف ذلك إلى نفسه لأنه سبحانه يبقيه في الدنيا أي فليعش ما شاء الله من السنين و الأعوام فإنه لا ينفعه طول عمره « حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب » أي عذاب الاستئصال عن الأصم و قيل عذاب وقت البأس و قيل عذاب القبر و قيل عذاب السيف « و إما الساعة » أي القيامة و عذاب النار « فسيعلمون » حين يرون العذاب « من هو شر مكانا » أي أ هم أم المؤمنون لأن مكانهم جهنم و مكان

المؤمنين الجنة « و أضعف جندا » أي و يعلمون أ جندهم أضعف أم جند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المسلمين و هذا رد لقولهم « أي الفريقين خير مقاما و أحسن نديا ».

العودة إلى القائمة

التالي