مجمع البيان

سورة مريم

66 - 70

وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)

القراءة

قرأ نافع و عاصم و ابن عامر و روح و زيد عن يعقوب و سهل « أ و لا يذكر » خفيفا و الباقون أ و لا يذكر بالتشديد.

الحجة

قال أبو علي: التذكر يراد به التدبر و التفكر و ليس تذكرا عن نسيان و الثقيلة كأنه في هذا المعنى أكثر فمن ذلك قوله أ و لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر و قال إنما يتذكر أولوا الألباب فإضافته إلى أولي الألباب يدل على أن المراد به النظر و التفكر و الخفيفة في هذا المعنى دون ذلك في الكثرة و قد قال الله تعالى إن هذه تذكرة فمن شاء ذكره و زعموا أنه في حرف أبي أ و لا يتذكر و أما قوله « و لم يك شيئا » فمعناه لم يك شيئا موجودا و ليس يراد أنه قبل الخلق لم يقع عليه اسم شي‏ء و هذا كقوله تعالى هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا و قد قال إن زلزلة الساعة شي‏ء عظيم.

اللغة

الجثي جمع الجاثي و هو الذي برك على ركبتيه و أصله جثو فعول من جثى يجثو و قد تقدم القول فيه في أوائل السورة و الشيعة الجماعة المتعاونون على أمر واحد من الأمور و منه تشايع القوم إذا تعاونوا و الصلي مصدر صلي يصلي صليا مثل لقي يلقى لقيا و صلى يصلي صليا مثل مضى يمضي مضيا.

الإعراب

العامل في قوله « أ إذا ما مت » مضمر دل عليه قوله « سوف أخرج حيا » و التقدير أ إذا ما مت بعثت و لا يجوز أن يعمل فيه أخرج لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبله كما أن ما بعد أن كذلك و ما بعد الاستفهام و حرف النفي و قد ذكرنا ذلك في مواضع « و الشياطين » يحتمل أن يكون منصوبا بأنه مفعول به أي و نحشر الشياطين و يحتمل أن يكون مفعولا معه بمعنى لنحشرنهم مع الشياطين و جثيا منصوب على الحال و عتيا منصوب على التمييز و كذلك صليا فأما الرفع في « أيهم أشد » قال الزجاج: فيه ثلاثة أقوال (أحدها) قال سيبويه عن يونس أن لننزعن معلقة لم تعمل شيئا فكان قول يونس ثم لننزعن من كل شيعة ثم استأنف فقال أيهم (و الثاني) حكى سيبويه عن الخليل أنه بمعنى الذين يقال لهم أيهم أشد على الرحمن عتيا و مثله قول الشاعر:

و لقد أتيت من القناة بمنزل      فأبيت لا حرج و لا محروم

و المعنى فأبيت بمنزلة الذي يقال لا هو حرج و لا محروم (و الثالث) قال سيبويه: أن أيهم مبنية على الضم لأنها خالفت أخواتها بأن استعمل معها حذف الابتداء تقول أضرب أيهم أفضل تريد أيهم هو أفضل فيحسن الاستعمال كذلك بحذف هو و لا يحسن أضرب من أفضل حتى تقول من هو أفضل و لا يحسن كل ما أطيب حتى تقول كل ما هو أطيب قال: فلما خالفت من و ما و الذي لا تقول فيه أيضا خذ الذي أفضل حتى تقول خذ الذي هو أفضل فلما خالفت الاختلاف بنيت على الضم في الإضافة و النصب حسن و إن كنت قد حذفت هو لأن هو قد يجوز حذفها و قد قرى‏ء تماما على الذي أحسن على معنى الذي هو أحسن قال أبو علي: ينبغي أن يكون مراد يونس بقوله أن الفعل معلق أنه معمل في موضع من كل شيعة و ليس يريد به أنه غير معمل في شي‏ء البتة بل يريد أنه معمل في موضع الجار و المجرور لأن لفظ التعليق إنما يستعمل فيما يعمل في الموضع دون اللفظ و لو أراد أنه لا عمل له في لفظ و لا موضع لقال ملغى و لم يقل معلق كما تقول في زيد ظننت منطلق أنه ملغى و إذا كان كذلك كان قول الكسائي في الآية مثل قول يونس لأن الكسائي قال: أن قوله « لننزعن من كل شيعة » كقولك أكلت من طعام فإن كان كذلك كان أيهم منقطعا من هذه الجملة و كانت جملة مستأنفة فإن قال قائل لم زعم سيبويه أنه إذا حذف العائد من الصلة وجب البناء على الضم فالجواب أن الصلة تبين الموصول و توضحه كما أن المضاف إليه يبين المضاف و يخصصه فكما أن المضاف إليه لما حذف بني المضاف فكذلك لما حذف العائد من الصلة إلى الموصول هنا بني فإن قال ما ينكر أن لا يكون حذف المبتدأ العائد من الصلة عوض

حذف المضاف إليه من المضافات لأن المحذوف هنا بعض الجملة و في المضاف قد حذف المضاف كله قيل إن حذف العائد هنا نظير حذف المضاف إليه هناك أ لا ترى أن الذي يبين به الموصول و يتضح إنما هو الراجع الذي في الجملة و لو لا الراجع لم يبين و إذا كان المبين له الراجع من الجملة فالحذف منها كان بمنزلة حذف المضاف إليه من المضاف.

النزول

نزل قوله « و يقول الإنسان » الآية في أبي بن خلف الجمحي و ذلك أنه أخذ عظما باليا فجعل يفته بيده و يذريه في الريح و يقول زعم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الله يبعثنا بعد أن نموت و نكون عظاما مثل هذا إن هذا شي‏ء لا يكون أبدا عن الكلبي و قيل نزلت في الوليد بن المغيرة في رواية عطاء عن ابن عباس.

المعنى

لما تقدم ذكر الوعد و الوعيد و البعث و النشور حكى سبحانه عقيبه قول منكري البعث و رد عليهم بأوضح بيان و أجلى برهان فقال « و يقول الإنسان أ إذا ما مت لسوف أخرج حيا » هذا استفهام المراد به الإنكار و الاستهزاء أي أ إذا ما مت أعادني الله حيا فقال سبحانه مجيبا لهذا الكافر « أ و لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل » أي أ و لا يتذكر هذا الجاحد حال ابتداء خلقه فيستدل بالابتداء على الإعادة و قيل أن الإنسان هنا مفرد في اللفظ مجموع في المعنى يريد جميع منكري البعث « و لم يك شيئا » معناه و لم يك شيئا كائنا أو مذكورا سؤال قيل كيف تدل النشأة الأولى على النشأة الثانية و الواحد منا يقدر على أفعاله كالحركات و السكنات و الأصوات و غيرها و لا يقدر على إعادتها و الجواب من وجوه (أحدها) أنه سبحانه خلق الأجسام و الحياة فيها و البقاء جائز عليها فيجب أن يقدر على إعادتها بخلاف أفعالنا فإنها لا تبقى و لا يصح الإعادة عليها (و الثاني) أن الابتداء أصعب من الإعادة فإذا كان قادرا على الابتداء فلأن يكون قادرا على الإعادة أولى (و الثالث) أنه سبحانه استدل بخلق الأجسام على أنه قادر لذاته إذ القادر بقدرة لا يصح منه فعل الأجسام و إذا كان قادرا لذاته و يقدر على إيجاد ما يصح وجوده وقتين قدر على إعادته ثم حقق سبحانه أمر الإعادة فقال « فو ربك » يا محمد « لنحشرنهم و الشياطين » أي لنجمعنهم و نبعثنهم من قبورهم مقرنين بأوليائهم من الشياطين و قيل لنحشرنهم و لنحشرن الشياطين أيضا « ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا » أي مستوفزين على الركب عن قتادة و المعنى يجثون حول جهنم متخاصمين و يتبرأ بعضهم من بعض لأن المحاسبة تكون بقرب جهنم و قيل جثيا أي جماعات جماعات عن ابن عباس كأنه قيل زمرا و هو جمع جثوة و جثوة هي المجموع من التراب و الحجارة و قيل معناه قياما على الركب و ذلك لضيق المكان بهم لا يمكنهم أن

يجلسوا عن السدي « ثم لننزعن من كل شيعة » أي لنستخرجن من كل جماعة « أيهم أشد على الرحمن عتيا » أي الأعتى فالأعتى منهم قال قتادة: لننزعن من كل أهل دين قادتهم و رءوسهم في الشر و العتي هاهنا مصدر كالعتو و هو التمرد في العصيان و قيل يبدأ بالأكثر جرما فالأكثر عن مجاهد و أبي الأحوص « ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا » أي لنحن أعلم بالذين هم أولى بشدة العذاب و أحق بعظيم العقاب و أجدر بلزوم النار.

العودة إلى القائمة

التالي