مجمع البيان

سورة مريم

61 - 65

جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)

القراءة

قرأ رويس عن يعقوب نورث بالتشديد و الباقون « نورث » و في بعض الروايات عن أبي عمرو « هل تعلم » يدغم اللام في التاء و الأكثر الإظهار.

الحجة

يقال أورثه و ورثه بمعنى قال أبو علي يرى سيبويه أن إدغام اللام في التاء و الدال و الطاء و الصاد و الزاي و السين جائز لأن مخرج اللام قريب من مخارجهن و هي حروف

طرف اللسان و أنشد لمزاحم العقيلي:

فذر ذا و لكن هتعين متيما      على ضوء برق آخر الليل ناصب

الإعراب

« جنات عدن » بالنصب على البدل من قوله الجنة و قوله « بالغيب » في موضع الحال أي كائنة بالغيب و ذو الحال جنات عدن و سلاما استثناء منقطع فكأنه قال لا يسمعون فيها كلاما يؤلمهم و لكن يسمعون سلاما « و ما نتنزل إلا بأمر ربك » تقديره قل ما نتنزل فأضمر القول.

« له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك » قال أبو علي هذه الآية تدل على أن الأزمنة ثلاثة ماض و هو قوله « ما بين أيدينا » و مستقبل و هو قوله « و ما خلفنا » و حال و هو قوله « و ما بين ذلك » « و ما كان ربك نسيا رب السماوات و الأرض » بدل من اسم كان و إن شئت كان خبر مبتدإ محذوف و إن شئت كان مبتدأ و قوله « فاعبده » خبره و هذا على قول الأخفش دون سيبويه.

النزول

قيل أن العاص بن وائل السهمي لم يعط أجرة أجير استعمله و قال لو كان ما يقوله محمد حقا فنحن أولى بالجنة و نعيمها فحينئذ أوفره أجره فنزل « تلك الجنة التي نورث » الآية و قيل احتبس الوحي أياما لما سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قصة أصحاب الكهف و ذي القرنين و الروح فشق ذلك عليه فلما أتاه جبرائيل استبطأه فنزلت « و ما نتنزل إلا بأمر ربك » الآية عن عكرمة و الضحاك و قتادة و الكلبي و مقاتل.

المعنى

ثم وصف سبحانه الجنة فقال « جنات عدن » أي جنات إقامة يقال عدن بالمكان إذا أقام به و وحد في الآية المتقدمة و جمع هاهنا فكأنه جنة تشتمل على جنات و قيل لأن لكل واحد من المؤمنين جنة تجمعها الجنة العظماء « التي وعد الرحمن عباده بالغيب » المراد بالعباد المؤمنون كما قال فادخلي في عبادي و ادخلي جنتي و قيل إنه يتناول المؤمن و الكافر و لكن بشرط رجوع الكافر عن كفره و قال « بالغيب » لأنهم غابوا عما فيها مما لا عين رأت و لا أذن سمعت عن ابن عباس و المعنى أنه وعدهم أمرا لم يكونوا يشاهدونه فصدقوه و هو غائب عنهم « إنه كان وعده » أي موعوده « مأتيا » أي آتيا لا محالة و المفعول هنا بمعنى الفاعل لأن ما آتيته فقد أتاك و ما أتاك فقد أتيته يقال أتيت على خمسين سنة و أتت علي خمسون سنة و قيل إن الموعود هو الجنة و الجنة مأتية يأتيها المؤمنون « لا يسمعون فيها لغوا » أي لا يسمعون في تلك الجنات القول الذي لا معنى له يستفاد و هو اللغو و قيل قد

يكون اللغو الهزل و ما يلغى من الكلام مثل الفحش و الأباطيل « إلا سلاما » أي إلا سلام الملائكة عليهم و سلام بعضهم على بعض قال الزجاج: السلام اسم جامع لكل خير لأنه يتضمن السلامة أي يسمعون ما يسلمهم « و لهم رزقهم فيها بكرة و عشيا » قال المفسرون ليس في الجنة شمس و لا قمر فيكون لهم بكرة و عشيا و المراد أنهم يؤتون برزقهم على ما يعرفونه من مقدار الغداء و العشاء و قيل كانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء و العشاء لعجبت به و كانت تكره الوجبة و هي الأكلة الواحدة في اليوم فأخبر الله تعالى أن لهم في الجنة رزقهم بكرة و عشيا على قدر ذلك الوقت و ليس ثم ليل و إنما هو ضوء و نور عن قتادة و قيل إنهم يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب و إغلاق الأبواب و مقدار النهار برفع الحجب و فتح الأبواب « تلك الجنة التي » هي مذكورة في قوله « فأولئك يدخلون الجنة » التي « نورث من عبادنا من كان تقيا » أي إنما نملك تلك الجنة من كان تقيا في دار الدنيا بترك المعاصي و فعل الطاعات و إنما قال « نورث » مع أنه ليس بتمليك نقل من غيرهم إليهم لأنه شبه بالميراث من جهة أنه تمليك بحال استؤنفت عن حال قد انقضت من أمر الدنيا كما ينقضي حال الميت من أمر الدنيا عن الجبائي و قيل إنه تعالى أورثهم من الجنة المساكن و المنازل التي كانت لأهل النار لو أطاعوا الله تعالى و أضاف العباد إلى نفسه لأنه أراد المؤمنين « و ما نتنزل إلا بأمر ربك » قال ابن عباس إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لجبرائيل ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فنزل « و ما نتنزل إلا بأمر ربك » الآية أي إذا أمرنا نزلنا عليك و هو قول مجاهد و قتادة و الضحاك و قيل إنه قول أهل الجنة إنا لا نتنزل موضعا من الجنة إلا بأمر الله تعالى عن أبي مسلم « له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك » معناه له ما بين أيدينا من أمر الآخرة و ما خلفنا أي ما مضى من أمر الدنيا و ما بين ذلك أي ما بين النفختين عن ابن عباس و قتادة و الضحاك و الربيع قال مقاتل: و ما بين النفختين أربعون سنة و قيل معناه ابتداء خلقنا و منتهى آجالنا و مدة حياتنا و قيل ما بين أيدينا ما بقي من أمر الدنيا و ما خلفنا ما مضى من الدنيا و ما بين ذلك من حياتنا أي هو المدبر لنا في الأوقات الماضية و الآتية و الذاهبة و قيل ما بين أيدينا أي الأرض عند نزولنا و ما خلفنا السماوات إذ نزلنا منها و ما بين ذلك السماء و الأرض « و ما كان ربك نسيا » قيل هذا تمام حكاية قول الملائكة و قول أهل الجنة و قيل بل تم الكلام قبله ثم أخبر الله سبحانه عن نفسه و معناه أنه سبحانه ليس ممن ينسى و يخرج عن كونه عالما لأنه عالم لذاته و تقديره و ما نسيك يا محمد و إن أخر الوحي عنك و قيل ما كان ربك ناسيا لأحد حتى لا يبعثه يوم القيامة عن أبي مسلم « رب السماوات و الأرض » أي خالقهما و مدبرهما « و ما بينهما » من الخلائق و الأشياء « فاعبده » وحده لا شريك له « و اصطبر لعبادته »

أي اصبر على تحمل مشقة عبادته ثم قال لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) « هل تعلم له سميا » أي مثلا و شبيها عن ابن عباس و مجاهد و ابن جريج و سعيد بن جبير و قيل هل تعلم أحدا يستحق أن يسمى إلها إلا هو عن الكلبي و قيل هل تعلم أحدا يسمى إلها خالقا رازقا محييا مميتا قادرا على الثواب و العقاب سواه حتى تعبده فإذا لم تعلم ذلك فالزم عبادته و هذا استفهام بمعنى النفي أي لا تعلم من يسمى بلفظة الله.

العودة إلى القائمة

التالي