مجمع البيان

سورة مريم

56 - 60

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)

اللغة

العلي العظيم العلو و العلي العظيم فيما يقدر به على الأمور و منه يوصف الله تعالى بأنه علي و الفرق بين العلي و الرفيع أن العلي قد يكون بمعنى الاقتدار و بمعنى علو المكان و الرفيع من رفع المكان لا غير و لذلك لا يوصف الله تعالى بأنه رفيع و أما رفيع الدرجات فإنه وصف للدرجات بالرفعة و بكي وزنه فعول و هو جمع باك و يجوز أن يكون مصدرا بمعنى البكاء و الخلف بفتح اللام يستعمل في الصالح و بسكون اللام في الطالح و قد يستعمل كل واحد في الآخر قال لبيد:

ذهب الذين يعاش في أكنافهم      و بقيت في خلف كجلد الأجرب

الإعراب

« سجدا و بكيا » نصب على الحال و تقديره خروا ساجدين و باكين قال الزجاج: و هي حال مقدرة المعنى خروا مقدرين السجود لأن الإنسان في حال خروره لا يكون ساجدا « إلا من تاب » في موضع نصب أي فسوف يلقون العذاب إلا التائبين فيكون الاستثناء متصلا و يجوز أن يكون الاستثناء منقطعا من غير الأول و يكون المعنى لكن من تاب و آمن فأولئك يدخلون الجنة.

المعنى

ثم ذكر سبحانه حديث إدريس فقال « و اذكر » يا محمد « في الكتاب » الذي هو القرآن « إدريس » و هو جد أب نوح (عليه السلام) و اسمه في التوراة أخنوخ و قيل أنه سمي

إدريس لكثرة درسه الكتب و هو أول من خط بالقلم و كان خياطا و أول من خاط الثياب و قيل إن الله تعالى علمه النجوم و الحساب و علم الهيأة و كان ذلك معجزة له « إنه كان صديقا نبيا » مر معناه « و رفعناه مكانا عليا » أي عاليا رفيعا و قيل إنه رفع إلى السماء الرابعة عن أنس و أبي سعيد الخدري و كعب و مجاهد و قيل إلى السماء السادسة عن ابن عباس و الضحاك قال مجاهد: رفع إدريس (عليه السلام) كما رفع عيسى (عليه السلام) و هو حي لم يمت و قال آخرون أنه قبض روحه بين السماء الرابعة و الخامسة و روي ذلك عن أبي جعفر و قيل إن معناه و رفعنا محله و مرتبته بالرسالة كقوله تعالى « و رفعنا لك ذكرك » و لم يرد به رفعة المكان عن الحسن و الجبائي و أبي مسلم و لما فصل سبحانه ذكر النبيين و وصف كلا منهم بصفة تخصه جمعهم في المدح و الثناء فقال « أولئك » تقدم ذكرهم « الذين أنعم الله عليهم » بالنبوة و قيل بالثواب و بسائر النعم الدينية و الدنيوية « من النبيين من ذرية آدم و ممن حملنا مع نوح و من ذرية إبراهيم و إسرائيل » إنما فرق سبحانه ذكر نسبهم مع أن كلهم كانوا من ذرية آدم (عليه السلام) لتبيان مراتبهم في شرف النسب فكان لإدريس شرف القرب لآدم لأنه جد نوح (عليه السلام) و كان إبراهيم من ذرية من حمل مع نوح لأنه من ولد سام بن نوح و كان إسماعيل و إسحاق و يعقوب من ذرية إبراهيم لما تباعدوا من آدم حصل لهم شرف إبراهيم و كان موسى و هارون و زكريا و يحيى و عيسى و من ذرية إسرائيل « و ممن هدينا و اجتبينا » قيل إنه تم الكلام عند قوله « إسرائيل » ثم ابتدأ فقال « و ممن هدينا و اجتبينا » من الأمم قوم « إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا و بكيا » فحذف لدلالة الكلام عليه عن أبي مسلم و روي عن علي بن الحسين (عليهماالسلام) أنه قال نحن عنينا بها و قيل بل المراد به الأنبياء الذين تقدم ذكرهم من ذرية آدم و ممن هديناهم و اجتبيناهم أي هديناهم إلى الحق فاهتدوا و اخترناهم من بين الخلق ثم وصفهم فقال « إذا تتلى عليهم » أي تقرأ عليهم « آيات الرحمن » و هو القرآن عن ابن عباس « خروا سجدا » أي ساجدين لله « و بكيا » أي باكين متضرعين إليه بين الله سبحانه أنهم مع جلالة قدرهم كانوا يبكون عند ذكر آيات الله و هؤلاء العصاة ساهون لاهون مع إحاطة السيئات بهم ثم أخبر سبحانه فقال « فخلف من بعدهم خلف » و الخلف البدل السيى‏ء معناه من بعد النبيين المذكورين قوم سوء و قيل هم اليهود و من تبعهم لأنهم من ولد إسرائيل و قيل هم من هذه الأمة عند قيام الساعة عن مجاهد و قتادة « أضاعوا الصلاة » تركوها عن محمد بن كعب و قيل أضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها من غير أن تركوها أصلا عن ابن مسعود و إبراهيم و عمر بن عبد العزيز و الضحاك و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) « و اتبعوا الشهوات » أي انفذوا الشهوات فيما حرم الله عليهم فقال وهب: فخلف من بعدهم خلف

شرابون للقهوات لعابون بالكعبات ركابون للشهوات متبعون للذات تاركون للجمعات مضيعون للصلوات « فسوف يلقون غيا » أي يلقون مجازاة الغي عن الزجاج و هذا كقوله « و من يفعل ذلك يلق أثاما » أي مجازاة الآثام و قيل يلقون غيا أي شرا و خيبة عن ابن عباس و ابن زيد و منه قول الشاعر:

و من يغو لا يعدم على الغي لائما

أي يخب و قيل الغي واد في جهنم عن ابن مسعود و عطاء و كعب « إلا من تاب » أي ندم على ما سلف « و آمن » في مستقبل عمره « و عمل صالحا » من الواجبات و المندوبات « فأولئك يدخلون الجنة و لا يظلمون شيئا » و من قرأ يدخلون بضم الياء و فتح الخاء أراد أن الله سبحانه يدخلهم الجنة بأن يأمرهم بدخولها و هذا يطابق قوله « و لا يظلمون » و من قرأ « يدخلون » أراد أنهم يدخلونها بأمر الله و المعنيان واحد و لا يبخسون شيئا من ثوابهم بل يوفيه الله إليهم على التمام و الكمال و في هذا دلالة على أن الله لا يمنع أحدا ثواب عمله و لا يبطله لأنه سبحانه سمى ذلك ظلما.

العودة إلى القائمة

التالي