مجمع البيان

سورة مريم

31 - 35

وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35)

القراءة

قرأ عاصم و ابن عامر و يعقوب « قول الحق » بالنصب و الباقون بالرفع و في الشواذ قراءة أبي مجلز و أبي نهيك و برا بوالدتي بكسر الباء.

الحجة

قال أبو علي: قول الحق الرفع فيه على أن قوله « ذلك عيسى بن مريم » كلام و المبتدأ المضمر ما دل عليه هذا الكلام أي هذا الكلام قول الحق و يجوز أن يضمر هو و يجعله كناية عن عيسى (عليه السلام) أي هو قول الحق لأنه قد قيل فيه روح الله و كلمته و الكلمة قول و أما النصب فعلى أن قوله « ذلك عيسى بن مريم » يدل على أحق قول الحق و تقول هذا زيد الحق لا الباطل لأن قولك هذا زيد عندك بمنزلة أحق فكأنك قلت أحق الحق و أحق قول الحق و من قال و برا بوالدتي فكأنه قال و ألزمني برا بوالدتي و يكون معطوفا على موضع الجار و المجرور من قوله « و أوصاني بالصلاة و الزكاة » و عليه بيت الكتاب:

يذهبن في نجد و غورا غائرا أي و يسلكن غورا و إن شئت حملته على حذف المضاف بمعنى و جعلني ذا بر و إن شئت جعلته إياه على المبالغة كقول الخنساء:

فإنما هي إقبال و إدبار

اللغة

السلام مصدر سلمت و السلام جمع سلامة و السلام اسم من أسماء الله تعالى و سلام مما يبتدأ به في النكرة لأنه اسم يكثر استعماله يقال سلام عليك و السلام عليك

و أسماء الأجناس يكثر الابتداء بها و فائدة نكرتها قريب من فائدة معرفتها تقول لبيك و خير بين يديك و إن شئت قلت و الخير بين يديك إلا أنه لما جرى ذكر سلام قبل هذا الموضع بغير ألف و لام كان الأحسن أن يرد ثانية بالألف و اللام.

المعنى

ثم بين سبحانه تمام كلام عيسى (عليه السلام) فقال « و جعلني مباركا أين ما كنت » أي و جعلني معلما للخير عن مجاهد و قيل نفاعا حيث ما توجهت و البركة نماء الخير و المبارك الذي ينتمي الخير به و قيل ثابتا دائما على الإيمان و الطاعة و أصل البركة الثبوت عن الجبائي « و أوصاني بالصلاة و الزكاة » أي بإقامة الصلاة و أداء الزكاة « ما دمت » أي ما بقيت « حيا » مكلفا « و برا بوالدتي » أي و اجعلني بارا بها أؤدي شكرها فيما قاسته بسبي « و لم يجعلني جبارا » أي متجبرا « شقيا » و المعنى أني بلطفه و توفيقه كنت محسنا إلى والدتي متواضعا في نفسي حتى لم أكن من الجبابرة الأشقياء « و السلام علي » أي و السلامة علي من الله « يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حيا » أي في هذه الأحوال الثلاث و قد مر تفسيرها قبل في قصة يحيى و في هذه الآيات دلالة على أنه يجوز أن يصف الإنسان نفسه بصفات المدح إذا أراد تعريفها إلى غيره لا على وجه الافتخار قيل و لما كلمهم عيسى (عليه السلام) بهذا علموا براءة مريم ثم سكت عيسى (عليه السلام) فلم يتكلم بعد ذلك حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الصبيان « ذلك عيسى بن مريم » معناه ذلك الذي قال إني عبد الله عيسى بن مريم لا ما يقوله النصارى من أنه ابن الله و أنه إله « قول الحق » مر معناه في الحجة « الذي فيه يمترون » أي يشكون يعني اليهود و النصارى فزعمت اليهود أنه ساحر كذاب و زعمت النصارى أنه ابن الله و ثالث ثلاثة و قيل و هو افتراء النصارى و اختلافهم فبعضهم قالوا هو الله و قال بعضهم ابن الله و قال بعضهم ثالث ثلاثة ثم كذبهم الله تعالى فقال « ما كان لله أن يتخذ من ولد » معناه ما كان ينبغي لله أن يتخذ من ولد أي ما يصلح له و لا يستقيم عن ابن الأنباري قال فنابت اللام عن الفعل و ذلك أن من اتخذ ولدا فإنما يتخذه من جنسه لأن الولد مجانس للوالد و الله تعالى ليس كمثله شي‏ء فلا يكون له سبحانه ولد و لا يتخذ ولدا و قوله « من ولد » من هذه هي الذي تدل على نفي الواحد و الجماعة فالمعنى أنه لا يجوز أن يتخذ ولدا واحدا و لا أكثر ثم نزه سبحانه نفسه عن ذلك فقال « سبحانه » ثم بين السبب في كون عيسى من غير أب فقال « إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون » و قد مر تفسيره فيما مضى و المعنى أنه لا يتعذر عليه إيجاد شي‏ء على الوجه الذي أراده.

العودة إلى القائمة

التالي