مجمع البيان

سورة مريم

21 - 30

قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)

القراءة

قرأ حمزة و حفص « نسيا » بفتح النون و الباقون نسيا بكسر النون و قرأ « من تحتها » بكسر الميم أهل المدينة و الكوفة غير أبي بكر و سهل فالباقون من تحتها و قرأ حفص عن عاصم « تساقط » بضم التاء و كسر القاف و قرأ حماد عن عاصم و بصير عن الكسائي و يعقوب و سهل يساقط بالياء و تشديد السين و قراءة حمزة تساقط بفتح التاء و تخفيف السين و الباقون تساقط بفتح التاء و تشديد السين و في الشواذ قراءة مسروق يساقط بضم الياء و تخفيف السين و قرأ طلحة بن سليمان رطبا جنيا بكسر الجيم فإما ترين بسكون الياء و التخفيف.

الحجة

قال أبو علي: قال أبو الحسن: النسي هو الشي‏ء الحقير ينسى نحو النعل و السوط و قال غيره النسي أغفل ما من شي‏ء حقير و قال بعضهم ما إذا ذكر لم يطلب و قالوا الكسر على اللغتين قال الشنفري:

كان لها في الأرض نسيا تقصه      على أمها و إن تخاطبك تبلت

و قال في قوله « من تحتها » أنه جبرائيل أو عيسى و قال بعض أهل التأويل لا يكون إلا عيسى (عليه السلام) و لا يكون جبرائيل لأنه لو كان جبرائيل لناداها من فوقها و قد يجوز أن يكون جبرائيل و ليس قوله « من تحتها » يراد به الجهة السفلى و إنما المراد من دونها بدلالة قوله « قد جعل ربك تحتك سريا » و لم يكن النهر محاذيا لهذه الجهة و لكن المعنى جعله دونك و قد يقال فلان تحتنا أي دوننا في الموضع و الأشبه أن يكون المنادي لها عيسى فإنه أشد إزالة لما خامر قلبها من الاغتمام و إذا قال من تحتها كان عاما وضع موضع الخاص و المراد به عيسى قال و الوجوه كلها كما في تساقط متفقة في المعنى إلا قراءة حفص أ لا ترى أن من قرأ تساقط إنما هي تتساقط فحذف التاء التي يدغمها غيره و كلهم جعل فاعل الفعل الذي هو تساقط أو تساقط في رواية حفص النخلة و يجوز أن يكون فاعل تساقط أو تساقط هي جذع النخلة إلا أنه لما حذف المضاف أسند الفعل إلى النخلة في اللفظ فأما تعديتهم تسقط فهو تفاعل لأن تفاعل مطاوع فاعل فكما عدي نحو تفعل في نحو تجرعته و تمززته فكذلك عدي تفاعل فمما جاء من ذلك في الشعر قول أوفى بن مطر:

تخاطأت النبل أحشاءه      و أخر يومي فلم يعجل

و قول الآخر:

تطالعنا خيالات لسلمى      كما يتطالع الدين الغرم

و قول امرى‏ء القيس:

و مثلك بيضاء العوارض طفلة      لعوب تناساني إذا قمت سربالي

أراد تنسيني و من قرأ بالياء أمكن أن يكون فاعله الهز لأن قوله « هزي » قد دل عليه فإذا كان كذلك جاز أن يضمره كما أضمر الكذب في قوله (من كذب كان شرا له) و يمكن أن يكون الجذع و يجوز في الفعل إذا أسند إلى الجذع وجهان (أحدهما) إن الفعل أضيف إلى الجذع كما أضيف إلى النخلة برمتها لأن الجذع معظمها (و الآخر) أن يكون الجذع منفردا عن النخلة يسقط عليها و يكون سقوط الرطب من الجذع آية لعيسى (عليه السلام) و يصير سقوط الرطب من الجذع أسكن لنفسها و أشد إزالة لاهتمامها و سقوط الرطب من الجذع منفردا

من النخل مثل رزقها الذي كان يأتيها المحراب في قوله تعالى « كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا » إلى قوله « هو من عند الله » و قوله « رطبا » في هذه الوجوه منصوب على أنه مفعول به و يجوز في قوله « تساقط عليك » أي تساقط عليك ثمرة النخلة رطبا فحذف المضاف الذي هو الثمرة و يكون انتصاب رطب على الحال و جاز أن يضمر الثمر و إن لم يجر لها ذكر لأن ذكر النخلة يدل عليها فأما الباء في قوله « و هزي إليك بجذع النخلة » فيحتمل أمرين (أحدهما) أن يكون زيادة كقوله (ألقى بيده و ألقى يده) و قوله:

بواد يمان ينبت الشت صدره      و أسفله بالمرخ و الشبهان

و نحو ذلك و يجوز أن يكون المعنى و هزي إليك بهز جذع النخلة رطبا كما قال ذو الرمة:

و صوح البقل ناآج تجي‏ء به      هيف يمانية في مرها نكب

أي تجي‏ء بمجيئه هيف يعني إذا جاء النئاج جاء الهيف و كذلك إذا هزت الجذع هزت بهزه رطبا أي فإذا هززت الرطب سقط و أما قراءة مسروق يساقط فإنه بمعنى يسقط شيئا بعد شي‏ء و أنشد ابن جني قول ضابى‏ء البرجمي:

يساقط عنه روقه ضارباتها      سقاط حديد القين أخول

أخولا أي يسقط قرن هذا الثور ضاريات كلاب الصيد لطعنه إياها به شيئا بعد شي‏ء و أما قراءة طلحة رطبا جنيا فإنه أتبع كسرة الجيم كسرة النون قال ابن جني: شبه النون و إن لم يكن من حروف الحلق بهن في نحو الشخير و النخير و الرغيف و أما ترين فهي شاذ لكنه جاء في لغة إثبات النون في الجزم و أنشد أبو الحسن:

لو لا فوارس من قيس و أسرتهم      يوم الصليفاء لم يوفون بالجار

اللغة

القصي البعيد و القاصي خلاف الداني و قوله « فأجاءها » أي جاء بها المخاض و هو مما يعدى تارة بالباء و تارة بهمزة النقل قال زهير:

و جار سار معتمدا علينا      أجاءته المخاوف و الرجاء

أي جاءت به و يروي جاء قال الكسائي: تميم تقول ما أجاءك إلى هذا و ما أمشاك إليه و من أمثالهم شر أجاءك إلى مخة عرقوب و تميم تقول أمشاك و لسري النهر لأنه يسري بجريانه قال لبيد:

فتوسطا عرض السري فصدعا      مسجورة متجاورا قلامها

و يقال قررت به عينا أقر قرورا فهي لغة قريش و أهل نجد يقولون قررت به بفتح العين أقر قرارا كما يقولون قررت بالمكان بالفتح و الجني بمعنى المجني من جنيت الثمرة و أجنيتها إذا قطعتها و قال ابن أخت جذيمة:

هذا جناي و خياره فيه      إذ كل جان يده إلى فيه

و في معناه قول الكميت يمدح أهل البيت (عليهم السلام):

خيارها يجتنون فيه إذ الجانون      في ذي أكفهم أربوا

قال أبو مسلم: الفري مأخوذ من فري الأديم إذا قطعه على وجه الإصلاح ثم يستعمل في الكذب و قال الزجاج: يقال فلان يفري الفري إذا كان يعمل عملا يبالغ فيه قال الراجز:

قد كنت تفرين به الفريا

الإعراب

« عينا » منصوب على التمييز « فإما ترين » أصله ترأين إلا إن الاستعمال بغير همز و الياء فيه ضمير المؤنث و إنما حركت لالتقاء الساكنين و هما الياء و النون الأولى من المشددة كما تقول للمرأة أرضين زيدا و قوله « من كان في المهد صبيا » كان هنا بمعنى الحدوث و الوقوع و التقدير كيف نكلم من وجد في المهد صبيا نصب على الحال من كان و مثل كان

هاهنا قوله و إن كان ذو عسرة و مثله قول الربيع:

إذا كان الشتاء فادفؤني      فإن الشيخ يهدمه الشتاء

و يجوز أن يكون كان هنا مزيدة كما في قول الشاعر:

جياد بني أبي بكر تسامى      على كان المسومة العراب

فعلى هذا يكون العامل في الحال نكلم قال الزجاج: الأجود أن يكون من في معنى الشرط و الجزاء فيكون المعنى من يكن في المهد صبيا فكيف نكلمه و يكون صبيا حالا كما تقول من كان لا يسمع و لا يعقل فكيف أخاطبه.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي