الميزان في تفسير القرآن

سورة الواقعة

57 - 96

نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58) أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لّا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لّا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

بيان

لما فصل سبحانه القول فيما ينتهي إليه حال كل من الأزواج الثلاثة ففصل حال أصحاب الشمال و أن الذي ساقهم إلى ذلك نقضهم عهد العبودية و تكذيبهم للبعث و الجزاء و أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرد عليهم بتقرير البعث و الجزاء و بيان ما يجزون به يوم البعث.

وبخهم على تكذيبهم بالمعاد مع أن الذي يخبرهم به هو خالقهم الذي يدبر أمرهم و يقدر لهم الموت ثم الإنشاء فهو يعلم ما يجري عليهم مدى وجودهم و ما ينتهي إليه حالهم و مع أن الكتاب الذي ينبئهم بالمعاد هو قرآن كريم مصون من أن يلعب به أيدي الشياطين و أولياؤهم المضلين.

ثم يعيد الكلام إلى ما بدىء به من حال الأزواج الثلاثة و يذكر أن اختلاف أحوال الأقسام يأخذ من حين الموت و بذلك تختتم السورة.

قوله تعالى: «نحن خلقناكم فلو لا تصدقون» السياق سياق الكلام في البعث و الجزاء و قد أنكروه و كذبوا به، فقوله: «فلو لا تصدقون» تحضيض على تصديق حديث المعاد و ترك التكذيب به، و قد علله بقوله: «نحن خلقناكم» كما يستفاد من التفريع الذي في قوله: «فلو لا تصدقون».

و إيجاب خلقه تعالى لهم وجوب تصديقه فيما يخبر به من المعاد من وجهين: أحدهما: أنه تعالى خلقهم أول مرة فهو قادر على إعادة خلقهم ثانيا كما قال: «قال من يحيي العظام و هي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة و هو بكل خلق عليم»: يس: 79.

و ثانيهما: أنه تعالى لما كان هو خالقهم و هو المدبر لأمرهم المقدر لهم خصوصيات خلقهم و أمرهم فهو أعلم بما يفعل بهم و سيجري عليهم فإذا أنبأهم بأنه سيبعثهم بعد موتهم و يجزيهم بما عملوا إن خيرا و إن شرا لم يكن بد من تصديقه فلا عذر لمن كذب بما أخبر به كتابه من البعث و الجزاء، قال تعالى: «أ لا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير»: الملك: 14، و قال: «كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين»: الأنبياء: 104، و قال: «وعد الله حقا و من أصدق من الله قيلا»: النساء: 122.

فمحصل الآية: نحن خلقناكم و نعلم ما فعلنا و ما سنفعل بكم فنخبركم أنا سنبعثكم و نجزيكم بما عملتم فهلا تصدقون بما نخبركم به فيما أنزلناه من الكتاب.

و في الآية و ما يتلوها من الآيات التفات من الغيبة إلى الخطاب لأن السياق سياق التوبيخ و المعاتبة و ذلك بالخطاب أوقع و آكد.

قوله تعالى: «أ فرأيتم ما تمنون» الأمناء قذف المني و صبه و المراد قذفه و صبه في الأرحام، و المعنى: أ فرأيتم المني الذي تصبونه في أرحام النساء.

قوله تعالى: «أ أنتم تخلقونه أم نحن الخالقون» أي أ أنتم تخلقونه بشرا مثلكم أم نحن خالقوه بشرا.

قوله تعالى: «نحن قدرنا بينكم الموت و ما نحن بمسبوقين» تدبير أمر الخلق بجميع شئونه و خصوصياته من لوازم الخلق بمعنى إفاضة الوجود فوجود الإنسان المحدود بأول كينونته إلى آخر لحظة من حياته الدنيا بجميع خصوصياته التي تتحول عليه بتقدير من خالقه عز و جل.

فموته أيضا كحياته بتقدير منه، و ليس يعتريه الموت لنقص من قدرة خالقه أن يخلقه بحيث لا يعتريه الموت أو من جهة أسباب و عوامل تؤثر فيه بالموت فتبطل الحياة التي أفاضها عليه خالقه تعالى فإن لازم ذلك أن تكون قدرته تعالى محدودة ناقصة و أن يعجزه بعض الأسباب و تغلب إرادته إرادته و هو محال كيف؟ و القدرة مطلقة و الإرادة غير مغلوبة.

و يتبين بذلك أن المراد بقوله: «نحن قدرنا بينكم الموت» أن الموت حق مقدر و ليس أمرا يقتضيه و يستلزمه نحو وجود الحي بل هو تعالى قدر له وجودا كذا ثم موتا يعقبه.

و أن المراد بقوله: «و ما نحن بمسبوقين» و - السبق هو الغلبة و المسبوق المغلوب - و لسنا مغلوبين في عروض الموت عن الأسباب المقارنة له بأن نفيض عليكم حياة نريد أن يدوم ذلك عليكم فيسبقنا الأسباب و تغلبنا فتبطل بالموت الحياة التي كنا نريد دوامها.

قوله تعالى: «على أن نبدل أمثالكم و ننشئكم فيما لا تعلمون» «على» متعلقه بقوله: «قدرنا» و جملة الجار و المجرور في موضع الحال أي نحن قدرنا بينكم الموت حال كونه على أساس تبديل الأمثال و الإنشاء فيما لا تعلمون.

و الأمثال جمع مثل بالكسر فالسكون و مثل الشيء ما يتحد معه في نوعه كالفرد من الإنسان بالنسبة إلى فرد آخر، و المراد بقوله: «أن نبدل أمثالكم» أن نبدل أمثالكم من البشر منكم أو نبدل أمثالكم مكانكم، و المعنى على أي حال تبديل جماعة من أخرى و جعل الأخلاف مكان الأسلاف.

و قوله: «و ننشئكم فيما لا تعلمون» ما موصولة و المراد به الخلق و الجملة معطوفة على «نبدل» و التقدير و على أن ننشئكم و نوجدكم في خلق آخر لا تعلمونه و هو الوجود الأخروي غير الوجود الدنيوي الفاني.

و محصل معنى الآيتين أن الموت بينكم إنما هو بتقدير منا لا لنقص في قدرتنا بأن لا يتيسر لنا إدامة حياتكم و لا لغلبة الأسباب المهلكة المبيدة و قهرها و تعجيزها لنا في حفظ حياتكم و إنما قدرناه بينكم على أساس تبديل الأمثال و إذهاب قوم و الإتيان بآخرين و إنشاء خلق لكم يناسب الحياة الآخرة وراء الخلق الدنيوي الداثر فالموت انتقال من دار إلى دار و تبدل خلق إلى خلق آخر و ليس بانعدام و فناء.

و احتمل بعضهم أن يكون الأمثال في الآية جمع مثل بفتحتين و هو الوصف فتكون الجملتان «على أن نبدل» إلخ، و «ننشئكم» إلخ، تفيدان معنى واحدا، و المعنى: على أن نغير أوصافكم و ننشئكم في وصف لا تعرفونه أو لا تعلمونه كحشركم في صفة الكلب أو الخنزير أو غيرهما من الحيوان بعد ما كنتم في الدنيا على صفة الإنسان، و المعنى السابق أجمع و أكثر فائدة.

قوله تعالى: «و لقد علمتم النشأة الأولى فلو لا تذكرون» المراد بالنشأة الأولى نشأة الدنيا، و العلم بها بخصوصياتها يستلزم الإذعان بنشأة أخرى خالدة فيها الجزاء، فإن من المعلوم من النظام الكوني أن لا لغو و لا باطل في الوجود فلهذه النشأة الفانية غاية باقية، و أيضا من ضروريات هذا النظام هداية كل شيء إلى سعادة نوعه و هداية الإنسان تحتاج إلى بعث الرسل و تشريع الشرائع و توجيه الأمر و النهي، و الجزاء على خير الأعمال و شرها و ليس في الدنيا فهو في دار أخرى و هي النشأة الآخرة 1.

على أنهم شاهدوا النشأة الأولى و عرفوها و علموا أن الذي أوجدها عن كتم العدم هو الله سبحانه و إذ قدر عليها أولا فهو على إيجاد مثلها ثانيا قادر، قال تعالى: «قل يحييها الذي أنشأها أول مرة»: يس: 79، و هذا برهان على الإمكان يرتفع به استبعادهم للبعث.

و بالجملة يحصل لهم بالعلم بالنشأة الأولى علم بمبادىء البرهان على إمكان البعث فيرتفع به استبعاد البعث فلا استبعاد مع الإمكان.

و هذا - كما ترى - برهان على إمكان حشر الأجساد، محصله أن البدن المحشور مثل البدن الدنيوي و إذ جاز صنع البدن الدنيوي و إحياؤه فليجز صنع البدن الأخروي و إحياؤه لأنه مثله و حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد.

فمن العجيب قول الزمخشري في الكشاف، في الآية: و في هذا دليل على صحة القياس حيث جهلهم في ترك قياس النشأة الأخرى بالأولى.

انتهى.

و ذلك لأن الذي في الآية قياس برهاني منطقي و الذي يستدل بها عليه قياس فقهي مفيد للظن فأين أحدهما من الآخر؟.

و قال في روح المعاني، في الآية: فهلا تتذكرون أن من قدر عليها يعني على النشأة الأولى فهو على النشأة الأخرى أقدر و أقدر فإنها أقل صنعا لحصول المواد و تخصيص الأجزاء و سبق المثال، و هذا على ما قالوا دليل على صحة القياس لكن قيل: لا يدل إلا على قياس الأولي لأنه الذي في الآية.

انتهى.

و فيه ما في سابقه.

على أن الذي في الآية ليس من قياس الأولي في شيء لأن الجامع بين النشأة الأولى و الأخرى أنهما مثلان و مبدأ القياس أن حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد.

و أما قوله: إن النشأة الأخرى أقل صنعا لحصول المواد و تخصيص الأجزاء، فهو ممنوع فإن المواد تحتاج إلى إفاضة الوجود بقاء كما تحتاج إليها في حدوثها و أول حصولها، و كذا تخصص الأجزاء يحتاج إليها بقاء كما تحتاج إليها فالصنع ثانيا كالصنع أولا.

و أما قوله: و سبق المثال، فقد خلط بين المثل و المثال فالبدن الأخروي بالنظر إلى نفسه مثل البدن الدنيوي لا على مثاله و لو كان على مثاله كانت الآخرة دنيا لا آخرة.

فإن قلت: لو كان البدن الأخروي مثلا للبدن الدنيوي و مثل الشيء غيره كان الإنسان المعاد في الآخرة غير الإنسان المبتدء في الدنيا لأنه مثله لا عينه.

قلت: قد تقدم في المباحث السابقة غير مرة أن شخصية الإنسان بروحه لا ببدنه، و الروح لا تنعدم بالموت و إنما يفسد البدن و تتلاشى أجزاؤه ثم إذا سوي ثانيا مثل ما كان في الدنيا ثم تعلقت به الروح كان الإنسان عين الإنسان الذي في الدنيا كما كان زيد الشائب مثلا عين زيد الشاب لبقاء الروح على شخصيتها مع تغير البدن لحظة بعد لحظة.

قوله تعالى: «أ فرأيتم ما تحرثون - إلى قوله - محرومون» بعد ما ذكرهم بكيفية خلق أنفسهم و تقدير الموت بينهم تمهيدا للبعث و الجزاء و كل ذلك من لوازم ربوبيته عد لهم أمورا ثلاثة من أهم ما يعيشون به في الدنيا و هي الزرع الذي يقتاتون به و الماء الذي يشربونه و النار التي يصطلون بها و يتوسلون بها إلى جمل من مآربهم، و تثبت بذلك ربوبيته لهم فليست الربوبية إلا التدبير عن ملك.

فقال: «أ فرأيتم ما تحرثون» الحرث العمل في الأرض و إلقاء البذر عليها «أ أنتم تزرعونه» أي تنبتونه و تنمونه حتى يبلغ الغاية، و ضمير «تزرعونه» للبذر أو الحرث المعلوم من المقام «أم نحن الزارعون» المنبتون المنمون حتى يكمل زرعا «لو نشاء لجعلناه حطاما» أي هشيما متكسرا متفتتا «فظلتم» أي فظللتم و صرتم «تفكهون» أي تتعجبون مما أصيب به زرعكم و تتحدثون بما جرى قائلين «إنا لمغرمون» موقعون في الغرامة و الخسارة ذهب مالنا و ضاع وقتنا و خاب سعينا «بل نحن محرومون» ممنوعون من الرزق و الخير.

و لا منافاة بين نفي الزرع عنهم و نسبته إليه تعالى و بين توسط عوامل و أسباب طبيعية في نبات الزرع و نموه فإن الكلام عائد في تأثير هذه الأسباب و صنعها و ليس نحو تأثيرها باقتضاء من ذاتها منقطعة عنه تعالى بل بجعله و وضعه و موهبته، و كذا الكلام في أسباب هذه الأسباب، و ينتهي الأمر إلى الله سبحانه و أن إلى ربك المنتهى.

قوله تعالى: «أ فرأيتم الماء الذي تشربون - إلى قوله - فلو لا تشكرون» المزن السحاب، و قوله: «فلو لا تشكرون» تحضيض على الشكر، و شكره تعالى جميل ذكره تعالى على نعمه و هو إظهار عبوديته قولا و عملا.

و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: «أ فرأيتم النار التي تورون - إلى قوله - و متاعا للمقوين» قال في المجمع،: الإيراء إظهار النار بالقدح، يقال أورى يوري، قال: و يقال قدح فأورى إذا أظهر فإذا لم يور يقال: قدح فأكبى، و قال: و المقوي النازل بالقواء من الأرض ليس بها أحد، و أقوت الدار خلت من أهلها.

انتهى.

و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: «فسبح باسم ربك العظيم» خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

لما ذكر سبحانه شواهد ربوبيته لهم و أنه الذي يخلقهم و يدبر أمرهم و من تدبيره أنه سيبعثهم و يجزيهم بأعمالهم و هم مكذبون بذلك أعرض عن خطابهم و التفت إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إشعارا بأنهم لا يفقهون القول فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينزهه تعالى عن إشراكهم به و إنكارهم البعث و الجزاء.

فقوله: «فسبح باسم» إلخ، الفاء لتفريع التسبيح على ما تقدم من البيان، و الباء للاستعانة أو الملابسة، و المعنى: فإذا كان كذلك فسبح مستعينا بذكر اسم ربك، أو المراد بالاسم الذكر لأن إطلاق اسم الشيء ذكر له كما قيل أو الباء للتعدية لأن تنزيه اسم الشيء تنزيه له، و المعنى: نزه اسم ربك من أن تذكر له شريكا أو تنفي عنه البعث و الجزاء، و العظيم صفة الرب أو الاسم.

قوله تعالى: «فلا أقسم بمواقع النجوم» «لا أقسم» قسم و قيل: لا زائدة و أقسم هو القسم، و قيل: لا نافية و أقسم هو القسم.

و «مواقع» جمع موقع و هو المحل، و المعنى: أقسم بمحال النجوم من السماء، و قيل: مواقع جمع موقع مصدر ميمي بمعنى السقوط يشير به إلى سقوط الكواكب يوم القيامة أو وقوع الشهب على الشياطين، أو مساقط الكواكب في مغاربها، و أول الوجوه هو السابق إلى الذهن.

قوله تعالى: «و إنه لقسم لو تعلمون عظيم» تعظيم لهذا القسم و تأكيد على تأكيد.

قوله تعالى: «إنه لقرآن كريم - إلى قوله - من رب العالمين» لما كان إنكارهم حديث وحدانيته تعالى في ربوبيته و ألوهيته و كذا إنكارهم للبعث و الجزاء إنما أبدوه بإنكار القرآن النازل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي فيه نبأ التوحيد و البعث كان إنكارهم منشعبا إلى إنكار أصل التوحيد و البعث أصلا، و إلى إنكار ذلك بما أن القرآن ينبئهم به، فأورد تعالى أولا بيانا لإثبات أصل الوحدانية و البعث بذكر شواهد من آياته تثبت ذلك و هو قوله: «نحن خلقناكم - إلى قوله - و متاعا للمقوين»، و ثانيا بيانا يؤكد فيه كون القرآن الكريم كلامه المحفوظ عنده النازل منه و وصفه بأحسن أوصافه.

فقوله: «إنه لقرآن كريم» جواب للقسم السابق، الضمير للقرآن المعلوم من السياق السابق و يستفاد من توصيفه بالكريم من غير تقييد في مقام المدح أنه كريم على الله عزيز عنده و كريم محمود الصفات و كريم بذال نفاع للناس لما فيه من أصول المعارف التي فيها سعادة الدنيا و الآخرة.

و قوله: «في كتاب مكنون» وصف ثان للقرآن أي محفوظ مصون عن التغيير و التبديل، و هو اللوح المحفوظ كما قال تعالى: «بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ»: البروج: 22.

و قوله: «لا يمسه إلا المطهرون» صفة الكتاب المكنون و يمكن أن يكون وصفا ثالثا للقرآن و مآل الوجهين على تقدير كون لا نافية واحد.

و المعنى: لا يمس الكتاب المكنون الذي فيه القرآن إلا المطهرون أو لا يمس القرآن الذي في الكتاب إلا المطهرون.

و الكلام على أي حال مسوق لتعظيم أمر القرآن و تجليله فمسه هو العلم به و هو في الكتاب المكنون كما يشير إليه قوله: «إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم»: الزخرف: 4.

و المطهرون - اسم مفعول من التطهير - هم الذين طهر الله تعالى نفوسهم من أرجاس المعاصي و قذارات الذنوب أو مما هو أعظم من ذلك و أدق و هو تطهير قلوبهم من التعلق بغيره تعالى، و هذا المعنى من التطهير هو المناسب للمس الذي هو العلم دون الطهارة من الخبث أو الحدث كما هو ظاهر.

فالمطهرون هم الذين أكرمهم الله تعالى بتطهير نفوسهم كالملائكة الكرام و الذين طهرهم الله من البشر، قال تعالى: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا»: الأحزاب: 33، و لا وجه لتخصيص المطهرين بالملائكة كما عن جل المفسرين لكونه تقييدا من غير مقيد.

و ربما جعل «لا» في «لا يمسه» ناهية، و المراد بالمس على هذا مس كتابة القرآن، و بالطهارة الطهارة من الحدث أو الحدث و الخبث جميعا - و قرىء «المطهرون» بتشديد الطاء و الهاء و كسر الهاء أي المتطهرون - و مدلول الآية تحريم مس كتابة القرآن على غير طهارة.

و يمكن حمل الآية على هذا المعنى على تقدير كون لا نافية بأن تكون الجملة إخبارا أريد به الإنشاء و هو أبلغ من الإنشاء.

قال في الكشاف،: و إن جعلتها يعني جملة «لا يمسه إلا المطهرون» صفة للقرآن فالمعنى: لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة من الناس يعني مس المكتوب منه، انتهى و قد عرفت صحة أن يراد بالمس العلم و الاطلاع على تقدير كونها صفة للقرآن كما يصح على تقدير كونها صفة لكتاب مكنون.

و قوله: «تنزيل من رب العالمين» وصف آخر للقرآن، و المصدر بمعنى اسم المفعول أي منزل من عند الله إليكم تفتهمونه و تعقلونه بعد ما كان في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون.

و التعبير عنه تعالى برب العالمين للإشارة إلى أن ربوبيته تعالى منبسطة على جميع العالمين و هم من جملتهم فهو تعالى ربهم و إذا كان ربهم كان عليهم أن يؤمنوا بكتابه و يصغوا لكلامه و يصدقوه من غير تكذيب.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي