الميزان في تفسير القرآن

سورة القصص

29 - 42

فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)

بيان

فصل آخر من قصة موسى (عليه السلام) و قد أودع فيه إجمال قصته من حين سار بأهله من مدين قاصدا لمصر و بعثته بالرسالة إلى فرعون و ملئه لإنجاء بني إسرائيل و تكذيبهم له إلى أن أغرقهم الله في اليم و تنتهي القصة إلى إيتائه الكتاب و كأنه هو العمدة في سرد القصة.

قوله تعالى: «فلما قضى موسى الأجل و سار بأهله آنس من جانب الطور نارا» إلخ، المراد بقضائه الأجل إتمامه مدة خدمته لشعيب (عليه السلام) و المروي أنه قضى أطول الأجلين، و الإيناس الإبصار و الرؤية، و الجذوة من النار القطعة منها، و الاصطلاء الاستدفاء.

و السياق يشهد أن الأمر كان بالليل و كانت ليلة شديدة البرد و قد ضلوا الطريق فرأى من جانب الطور و قد أشرفوا عليه نارا فأمر أهله أن يمكثوا ليذهب إلى ما آنسه لعله يجد هناك من يخبره بالطريق أو يأخذ قطعة من النار فيصطلوا بها، و قد وقع في القصة من سورة طه موضع قوله: «لعلي آتيكم منها بخبر» إلخ قوله: «لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى:» طه: 10، و هو أدل على كونهم ضلوا الطريق.

و كذا في قوله خطابا لأهله: «امكثوا» إلخ، شهادة على أنه كان معها من يصح معه خطاب الجمع.

قوله تعالى: «فلما أتاها نودي من شاطىء الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة» إلخ قال في المفردات:، شاطىء الوادي جانبه، و قال: أصل الوادي الموضع الذي يسيل منه الماء و منه سمي المنفرج بين الجبلين واديا و جمعه أودية انتهى و البقعة القطعة من الأرض على غير هيئة التي إلى جنبها.

و المراد بالأيمن الجانب الأيمن مقابل الأيسر و هو صفة الشاطىء و لا يعبأ بما قاله بعضهم: إن الأيمن من اليمين مقابل الأشأم من الشؤم.

و البقعة المباركة قطعة خاصة من الشاطىء الأيمن في الوادي كانت فيه الشجرة التي نودي منها، و مباركتها لتشرفها بالتقريب و التكليم الإلهي و قد أمر بخلع نعليه فيها لتقدسها كما قال تعالى في القصة من سورة طه: «فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى»: طه: 12.

و لا ريب في دلالة الآية على أن الشجرة كانت مبدءا للنداء و التكليم بوجه غير أن الكلام و هو كلام الله سبحانه لم يكن قائما بها كقيام الكلام بالمتكلم منا فلم تكن إلا حجابا احتجب سبحانه به فكلمه من ورائه بما يليق بساحة قدسه من معنى الاحتجاب و هو على كل شيء محيط، قال تعالى: «و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء»: الشورى: 51.

و من هنا يظهر ضعف ما قيل: إن الشجرة كانت محل الكلام لأن الكلام عرض يحتاج إلى محل يقوم به.

و كذا ما قيل: إن هذا التكليم أعلى منازل الأنبياء (عليهم السلام) أن يسمعوا كلام الله سبحانه من غير واسطة و مبلغ.

و ذلك أنه كان كلاما من وراء حجاب و الحجاب واسطة و ظاهر آية الشورى المذكورة آنفا أن أعلى التكليم هو الوحي من غير واسطة حجاب أو رسول مبلغ.

و قوله: «أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين» أن فيه تفسيرية، و فيه إنباء عن الذات المتعالية المسماة باسم الجلالة الموصوفة بوحدانية الربوبية النافية لمطلق الشرك إذ كونه ربا للعالمين جميعا - و الرب هو المالك المدبر لملكه الذي يستحق العبادة من مملوكيه - لا يدع شيئا من العالمين يكون مربوبا لغيره حتى يكون هناك رب غيره و إله معبود سواه.

ففي الآية إجمال ما فصله في سورة طه في هذا الفصل من النداء من الإشارة إلى الأصول الثلاثة أعني التوحيد و النبوة و المعاد إذ قال: «إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني و أقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية» الآيات: طه: 14 - 16.

قوله تعالى: «و أن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى: مدبرا و لم يعقب» تقدم تفسيره في سورة النمل.

قوله تعالى: «يا موسى أقبل و لا تخف إنك من الآمنين» بتقدير القول أي قيل له: أقبل و لا تخف إنك من الآمنين، و في هذا الخطاب تأمين له، و به يظهر معنى قوله في هذا الموضع من القصة في سورة النمل: «يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون»: النمل: 10 و أنه تأمين معناه أنك مرسل و المرسلون آمنون لدي و ليس من العتاب و التوبيخ في شيء.

قوله تعالى: «اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء» المراد بسلوك يده في جيبه إدخاله فيه، و المراد بالسوء - على ما قيل - البرص.

و الظاهر أن في هذا التقييد تعريضا لما في التوراة الحاضرة في هذا الموضع من القصة: ثم قال له الرب أيضا: أدخل يدك في عبك فأدخل يده في عبه ثم أخرجها و إذا يده برصاء مثل الثلج.

قوله تعالى: «و اضمم إليك جناحك من الرهب» إلى آخر الآية، الرهب بالفتح فالسكون و بفتحتين و بالضم فالسكون الخوف، و الجناح قيل: المراد به اليد و قيل: العضد.

قيل: المراد بضم الجناح إليه من الرهب أن يجمع يديه على صدره إذا عرضه الخوف عند مشاهدة انقلاب العصا حية ليذهب ما في قلبه من الخوف.

و قيل: إنه لما ألقى العصا و صارت حية بسط يديه كالمتقي و هما جناحاه فقيل له: اضمم إليك جناحك أي لا تبسط يديك خوف الحية فإنك آمن من ضررها.

و الوجهان - كما ترى - مبنيان على كون الجملة أعني قوله: «و اضمم» إلخ، من تتمة قوله: «أقبل و لا تخف إنك من الآمنين» و هذا لا يلائم تخلل قوله: «اسلك يدك في جيبك» إلخ، بين الجملتين بالفصل من غير عطف.

و قيل: الجملة كناية عن الأمر بالعزم على ما أراده الله سبحانه منه و الحث على الجد في أمر الرسالة لئلا يمنعه ما يغشاه من الخوف في بعض الأحوال.

و لا يبعد أن يكون المراد بالجملة الأمر بأن يأخذ لنفسه سيماء الخاشع المتواضع فإن من دأب المتكبر المعجب بنفسه أن يفرج بين عضديه و جنبيه كالمتمطي في مشيته فيكون في معنى ما أمر الله به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من التواضع للمؤمنين بقوله: «و اخفض جناحك للمؤمنين»: الحجر: 88 على بعض المعاني.

قوله تعالى: «قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون» إشارة إلى قتله القبطي بالوكز و كان يخاف أن يقتلوه قصاصا.

قوله تعالى: «و أخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون» قال في المجمع:، يقال: فلان ردء لفلان إذا كان ينصره و يشد ظهره.

انتهى.

و قوله: «إني أخاف أن يكذبون» تعليل لسؤاله إرسال هارون معه، و السياق يدل على أنه كان يخاف أن يكذبوه فيغضب و لا يستطيع بيان حجته للكنة كانت في لسانه لا أنه سأل إرساله لئلا يكذبوه فإن من يكذبه لا يبالي أن يكذب هارون معه و من الدليل على ذلك ما وقع في سورة الشعراء في هذا الموضع من القصة من قوله: «قال رب إني أخاف أن يكذبون و يضيق صدري و لا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون»: الشعراء: 13.

فمحصل المعنى: أن أخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معينا لي يبين صدقي في دعواي إذا خاصموني إني أخاف أن يكذبون فلا أستطيع بيان صدق دعواي.

قوله تعالى: «قال سنشد عضدك بأخيك و نجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما و من اتبعكما الغالبون» شد عضده بأخيه كناية عن تقويته به، و عدم الوصول إليهما كناية عن عدم التسلط عليهما بالقتل و نحوه كأن الطائفتين يتسابقان و إحداهما متقدمة دائما و الأخرى لا تدركهم بالوصول إليهم فضلا أن يسبقوهم.

و المعنى: قال سنقويك و نعينك بأخيك هارون و نجعل لكما سلطة و غلبة عليهم فلا يتسلطون عليكما بسبب آياتنا التي نظهركما بها.

ثم قال: «أنتما و من اتبعكما الغالبون» و هو بيان لقوله: «و نجعل لكما سلطانا» إلخ، يوضح أن هذا السلطان يشملهما و من اتبعهما من الناس.

و قد ظهر بذلك أن السلطان بمعنى القهر و الغلبة و قيل: هو بمعنى الحجة و الأولى حينئذ أن يكون قوله: «بآياتنا» متعلقا بقوله: «الغالبون» لا بقوله: «فلا يصلون إليكما» و قد ذكروا في الآية وجوها أخر لا جدوى في التعرض لها.

قوله تعالى: «فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى» إلخ، أي سحر موصوف بأنه مفترى و المفترى اسم مفعول بمعنى المختلق أو مصدر ميمي وصف به السحر مبالغة.

و الإشارة في قوله: «ما هذا إلا سحر مفترى» إلى ما جاء به من الآيات أي ليس ما جاء به من الخوارق إلا سحرا مختلقا افتعله فنسبه إلى الله كذبا.

و الإشارة في قوله: «و ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين» إلى ما جاء به من الدعوة و أقام عليها حجة الآيات، و أما احتمال أن يراد بها الإشارة إلى الآيات فلا يلائمه تكرار اسم الإشارة على أنهم كانوا يدعون أنهم سيأتون بمثلها كما حكى الله عن فرعون في قوله: «فلنأتينك بسحر مثله»: طه: 58، على أن عدم معهودية السحر و عدم مسبوقيته بالمثل لا ينفعهم شيئا حتى يدعوه.

فالمعنى: أن ما جاء به موسى دين مبتدع لم ينقل عن آبائنا الأولين أنهم اتخذوه في وقت من الأوقات، و يناسبه ما حكي في الآية التالية من قول موسى: «ربي أعلم بمن جاء بالهدى» إلخ.

قوله تعالى: «و قال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده و من تكون له عاقبة الدار» إلخ، مقتضى السياق كونه جوابا من موسى عن قولهم: «و ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين» في رد دعوى موسى، و هو جواب مبني على التحدي كأنه يقول: إن ربي - و هو رب العالمين له الخلق و الأمر - هو أعلم منكم بمن جاء بالهدى و من تكون له عاقبة الدار و هو الذي أرسلني رسولا جائيا بالهدى - و هو دين التوحيد - و وعدني أن من أخذ بديني فله عاقبة الدار، و الحجة على ذلك الآيات البينات التي آتانيها من عنده.

فقوله: «ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده» يريد به نفسه و المراد بالهدى الدعوة الدينية التي جاء بها.

و قوله: «و من تكون له عاقبة الدار» المراد بعاقبة الدار إما الجنة التي هي الدار الآخرة التي يسكنها السعداء كما قال تعالى حكاية عنهم: «و أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء»: الزمر: 74، و إما عاقبة الدار الدنيا كما في قوله: «قال موسى لقومه استعينوا بالله و اصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين»: الأعراف: 128، و إما الأعم الشامل للدنيا و الآخرة، و الثالث أحسن الوجوه ثم الثاني كما يؤيده تعليله بقوله: «إنه لا يفلح الظالمون».

و في قوله: «إنه لا يفلح الظالمون» تعريض لفرعون و قومه و فيه نفي أن تكون لهم عاقبة الدار فإنهم بنوا سنة الحياة على الظلم و فيه انحراف عن العدالة الاجتماعية التي تهدي إليها فطرة الإنسان الموافقة للنظام الكوني.

قال بعض المفسرين: و الوجه في عطف قوله: «و قال موسى ربي أعلم» إلخ، على قولهم: «ما هذا إلا سحر مفترى» إلخ حكاية القولين ليوازن السامع بينهما ليميز صحيحهما من الفاسد.

انتهى.

و ما قدمناه من كون قول موسى (عليه السلام) مسوقا لرد قولهم أوفق للسياق.

قوله تعالى: «و قال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري» إلى آخر الآية، فيه تعريض لموسى بما جاء به من الدعوة الحقة المؤيدة بالآيات المعجزة يريد أنه لم يتبين له حقية ما يدعو إليه موسى و لا كون ما أتى به من الخوارق آيات معجزة من عند الله و أنه ما علم لهم من إله غيره.

فقوله: «ما علمت لكم من إله غيري» سوق للكلام في صورة الإنصاف ليقع في قلوب الملأ موقع القبول كما هو ظاهر قوله المحكي في موضع آخر: «ما أريكم إلا ما أرى و ما أهديكم إلا سبيل الرشاد»: المؤمن: 29.

فمحصل المعنى: أنه ظهر للملإ أنه لم يتضح له من دعوة موسى و آياته أن هناك إلها هو رب العالمين و لا حصل له علم بأن هناك إلها غيره ثم أمر هامان أن يبني له صرحا لعله يطلع إلى إله موسى.

و بذلك يظهر أن قوله: «ما علمت لكم من إله غيري» من قبيل قصر القلب فقد كان موسى (عليه السلام) يثبت الألوهية لله سبحانه و ينفيها عن غيره و هو ينفيها عنه تعالى و يثبتها لنفسه، و أما سائر الآلهة التي كان يعبدها هو و قومه فلا تعرض لها.

و قوله: «فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا» المراد بالإيقاد على الطين تأجيج النار عليه لصنعة الأجر المستعمل في الأبنية، و الصرح البناء العالي المكشوف من صرح الشيء إذا ظهر ففي الجملة أمر باتخاذ الأجر و بناء قصر عال منه.

و قوله: «لعلي أطلع إلى إله موسى» نسب الإله إلى موسى بعناية أنه هو الذي يدعو إليه، و الكلام من وضع النتيجة موضع المقدمة و التقدير: اجعل لي صرحا أصعد إلى أعلى درجاته فأنظر إلى السماء لعلي أطلع إلى إله موسى كأنه كان يرى أنه تعالى جسم ساكن في بعض طبقات الجو أو الأفلاك فكان يرجو إذا نظر من أعلى الصرح أن يطلع إليه أو كان هذا القول من قبيل التعمية على الناس و إضلالهم.

و يمكن أن يكون المراد أن يبني له رصدا يترصد الكواكب فيرى هل فيها ما يدل على بعثة رسول أو حقية ما يصفه موسى (عليه السلام)، و يؤيد هذا قوله على ما حكى في موضع آخر: «يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى و إني لأظنه كاذبا»: المؤمن: 37.

و قوله: «و إني لأظنه من الكاذبين» ترق منه من الجهل الذي يدل عليه قوله: «ما علمت لكم من إله غيري» إلى الظن بعدم الوجود و قد كان كاذبا في قوله هذا و لا يقوله إلا تمويها و تعمية على الناس و قد خاطبه موسى بقوله: «لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات و الأرض»: إسراء: 102.

و ذكر بعضهم أن قوله: «ما علمت لكم من إله غيري» من قبيل نفي المعلوم بنفي العلم فيما لو كان لبان فيكون نظير قوله: «قل أ تنبئون الله بما لا يعلم في السماوات و الأرض»: يونس: 18، و أنت خبير بأنه لا يلائم ذيل الآية.

قوله تعالى: «و استكبر هو و جنوده في الأرض بغير الحق و ظنوا أنهم إلينا لا يرجعون» أي كانت حالهم حال من يترجح عنده عدم الرجوع و ذلك أنهم كانوا موقنين في أنفسهم كما قال تعالى: «و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم ظلما و علوا».

قوله تعالى: «فأخذناه و جنوده» إلخ النبذ الطرح، و اليم البحر و الباقي ظاهر.

و في الآية من الاستهانة بأمرهم و تهويل العذاب الواقع بهم ما لا يخفى.

قوله تعالى: «و جعلناهم أئمة يدعون إلى النار و يوم القيامة لا ينصرون» الدعوة إلى النار هي الدعوة إلى ما يستوجب النار من الكفر و المعاصي لكونها هي التي تتصور لهم يوم القيامة نارا يعذبون فيها أو المراد بالنار ما يستوجبها مجازا من باب إطلاق المسبب و إرادة سببه.

و معنى جعلهم أئمة يدعون إلى النار، تصييرهم سابقين في الضلال يقتدي بهم اللاحقون و لا ضير فيه لكونه بعنوان المجازاة على سبقهم في الكفر و الجحود و ليس من الإضلال الابتدائي في شيء.

و قيل: المراد بجعلهم أئمة يدعون إلى النار تسميتهم بذلك على حد قوله: «و جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا»: الزخرف: 19.

و فيه أن الآية التالية على ما سيجيء من معناها لا تلائمه.

على أن كون الجعل في الآية المستشهد بها بمعنى التسمية غير مسلم.

و قوله: «و يوم القيامة لا ينصرون» أي لا تنالهم شفاعة من ناصر.

قوله تعالى: «و أتبعناهم في هذه الدنيا لعنة و يوم القيامة هم من المقبوحين» بيان للازم ما وصفهم به في الآية السابقة فهم لكونهم أئمة يقتدي بهم من خلفهم في الكفر و المعاصي لا يزال يتبعهم ضلال الكفر و المعاصي من مقتديهم و متبعيهم و عليهم من الأوزار مثل ما للمتبعين فيتبعهم لعن مستمر باستمرار الكفر و المعاصي بعدهم.

فالآية في معنى قوله: «و ليحملن أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم»: العنكبوت: 13 و قوله: «و نكتب ما قدموا و آثارهم»: يس: 12، و تنكير اللعنة للدلالة على تفخيمها و استمرارها.

و كذا لما لم ينلهم يوم القيامة نصر ناصر كانوا بحيث يتنفر و يشمئز عنهم النفوس و يفر منهم الناس و لا يدنو منهم أحد و هو معنى القبح و قد وصف الله تعالى من قبح منظرهم شيئا كثيرا في كلامه.

بحث روائي

في المجمع، روى الواحدي بالإسناد عن ابن عباس قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أوفاهما و أبطأهما.

أقول: و روي ما في معناه بالإسناد عن أبي ذر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن مقسم قال: لقيت الحسن بن علي بن أبي طالب رض فقلت له: أي الأجلين قضى موسى؟ الأول أو الآخر؟ قال: الآخر.

و في المجمع، روى أبو بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما قضى موسى الأجل و سار بأهله نحو البيت أخطأ الطريق فرأى نارا «قال لأهله امكثوا إني آنست نارا».

و عن كتاب طب الأئمة، بإسناده عن جابر الجعفي عن الباقر (عليه السلام) في حديث قال: و قال الله عز و جل في قصة موسى (عليه السلام): «و أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء» يعني من غير برص.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي