الميزان في تفسير القرآن

سورة القصص

22 - 28

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)

بيان

فصل ثالث من قصته (عليه السلام) يذكر فيه خروجه من مصر إلى مدين عقيب قتله القبطي خوفا من فرعون و تزوجه هناك بابنة شيخ كبير لم يسم في القرآن لكن تذكر روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و بعض روايات أهل السنة أنه هو شعيب النبي المبعوث إلى مدين.

قوله تعالى: «و لما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل» قال في المجمع:، تلقاء الشيء حذاؤه، و يقال: فعل ذلك من تلقاء نفسه أي من حذاء داعي نفسه.

و قال: سواء السبيل وسط الطريق انتهى.

و مدين - على ما في مراصد الاطلاع -، مدينة قوم شعيب و هي تجاه تبوك على بحر القلزم بينهما ست مراحل و هي أكبر من تبوك و بها البئر التي استقى منها موسى لغنم شعيب (عليه السلام) انتهى، و يقال: إنه كان بينهما و بين مصر مسيرة ثمان و كانت خارجة من سلطان فرعون و لذا توجه إليها.

و المعنى: و لما صرف وجهه بعد الخروج من مصر حذاء مدين قال: أرجو من ربي أن يهديني وسط الطريق فلا أضل بالعدول عنه و الخروج منه إلى غيره.

و السياق - كما ترى - يعطي أنه (عليه السلام) كان قاصدا لمدين و هو لا يعرف الطريق الموصلة إليها فترجى أن يهديه ربه.

قوله تعالى: «و لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون» إلخ الذود الحبس و المنع، و المراد بقوله: «تذودان» أنهما يحبسان أغنامهما من أن ترد الماء أو تختلط بأغنام القوم كما أن المراد بقوله: «يسقون» سقيهم أغنامهم و مواشيهم، و الرعاء جمع الراعي و هو الذي يرعى الغنم.

و المعنى: و لما ورد موسى ماء مدين وجد على الماء جماعة من الناس يسقون أغنامهم و وجد بالقرب منهم مما يليه امرأتين تحبسان أغنامهما و تمنعانها أن ترد المورد قال موسى مستفسرا عنهما - حيث وجدهما تذودان الغنم و ليس على غنمهما رجل -: ما شأنكما؟ قالتا لا نسقي غنمنا أي عادتنا ذلك حتى يصدر الراعون و يخرجوا أغنامهم و أبونا شيخ كبير - لا يقدر أن يتصدى بنفسه أمر السقي و لذا تصدينا الأمر.

قوله تعالى: «فسقى لهما ثم تولى إلى الظل و قال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير فهم» (عليهم السلام) من كلامهما أن تأخرهما في السقي نوع تعفف و تحجب منهما و تعد من الناس عليهما فبادر إلى ذلك و سقى لهما.

و قوله: «ثم تولى إلى الظل و قال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير» أي انصرف إلى الظل ليستريح فيه و الحر شديد و قال ما قال، و قد حمل الأكثرون قوله: «رب إني لما أنزلت» إلخ على سؤال طعام يسد به الجوع، و عليه فالأولى أن يكون المراد بقوله «ما أنزلت إلي» القوة البدنية التي كان يعمل بها الأعمال الصالحة التي فيها رضى الله كالدفاع عن الإسرائيلي و الهرب من فرعون بقصد مدين و سقي غنم شعيب و اللام في «لما أنزلت» بمعنى إلى و إظهار الفقر إلى هذه القوة التي أنزلها الله إليه من عنده بالإفاضة كناية عن إظهار الفقر إلى شيء من الطعام تستبقى به هذه القوة النازلة الموهوبة.

و يظهر منه أنه (عليه السلام) كان ذا مراقبة شديدة في أعماله فلا يأتي بعمل و لا يريده و إن كان مما يقتضيه طبعه البشري إلا ابتغاء مرضاة ربه و جهادا فيه، و هذا ظاهر بالتدبر في القصة فهو القائل لما وكز القبطي: رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ثم القائل لما خرج من مصر خائفا يترقب: «رب نجني من القوم الظالمين» ثم القائل لما أخذ في السلوك: «عسى ربي أن يهديني سواء السبيل» ثم القائل لما سقى و تولى إلى الظل: «رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير» ثم القائل لما آجر نفسه شعيبا و عقد على بنته: «و الله على ما نقول وكيل».

و ما نقل عن بعضهم أن اللام في «لما أنزلت» للتعليل و كذا قول بعضهم إن المراد بالخير خير الدين و هو النجاة من الظالمين بعيد مما يعطيه السياق.

قوله تعالى: «فجاءته إحداهما تمشي على استحياء» إلى آخر الآية.

ضمير إحداهما للمرأتين، و تنكير الاستحياء للتفخيم و المراد بكون مشيها على استحياء ظهور التعفف من مشيتها، و قوله: «ليجزيك أجر ما سقيت لنا» ما مصدرية أي ليعطيك جزاء سقيك لنا، و قوله: «فلما جاءه و قص عليه القصص قال لا تخف» إلخ يلوح إلى أن شعيبا استفسره حاله فقص عليه قصته فطيب نفسه بأنه نجا منهم إذ لا سلطان لهم على مدين.

و عند ذلك تمت استجابته تعالى لموسى (عليه السلام) أدعيته الثلاثة فقد كان سأل الله تعالى عند خروجه من مصر أن ينجيه من القوم الظالمين فأخبره شعيب (عليه السلام) بالنجاة و ترجى أن يهديه سواء السبيل و هو في معنى الدعاء فورد مدين، و سأله الرزق فدعاه شعيب ليجزيه أجر ما سقى و زاد تعالى فكفاه رزق عشر سنين و وهب له زوجا يسكن إليها.

قوله تعالى: «قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين» إطلاق الاستيجار يفيد أن المراد استخدامه لمطلق حوائجه التي تستدعي من يقوم مقامه و إن كانت العهدة باقتضاء المقام رعي الغنم.

و قوله: «إن خير من استأجرت» إلخ، في مقام التعليل لقوله: «استأجره» و هو من وضع السبب موضع المسبب و التقدير استأجره لأنه قوي أمين و خير من استأجرت هو القوي الأمين.

و في حكمها بأنه قوي أمين دلالة على أنها شاهدت من نحو عمله في سقي الأغنام ما استدلت به على قوته و كذا من ظهور عفته في تكليمهما و سقي أغنامهما ثم في صحبته لها عند ما انطلق إلى شعيب حتى أتاه ما استدلت به على أمانته.

و من هنا يظهر أن هذه القائلة: «يا أبت استأجره» إلخ، هي التي جاءته و أخبرته بدعوة أبيها له كما وردت به روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و ذهب إليه جمع من المفسرين.

قوله تعالى: «قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج» إلخ، عرض من شعيب لموسى (عليهما السلام) أن يأجره نفسه ثماني سنين أو عشرا قبال تزويجه إحدى ابنتيه و ليس بعقد قاطع و من الدليل عدم تعين المعقودة في كلامه (عليه السلام).

فقوله: «إحدى ابنتي هاتين» دليل على حضورهما إذ ذاك، و قوله: «على أن تأجرني ثماني حجج» أي على أن تأجرني نفسك أي تكون أجيرا لي ثماني حجج، و الحجج جمع حجة و المراد بها السنة بعناية أن كل سنة فيها حجة للبيت الحرام، و به يظهر أن حج البيت - و هو من شريعة إبراهيم (عليه السلام) - كان معمولا به عندهم.

و قوله: «فإن أتممت عشرا فمن عندك» أي فإن أتممته عشر سنين فهو من عندك و باختيار منك من غير أن تكون ملزما من عندي.

و قوله: «و ما أريد أن أشق عليك» إخبار عن نحو ما يريده منه من الخدمة و أنه عمل غير موصوف بالمشقة و أنه مخدوم صالح.

و قوله: «ستجدني إن شاء الله من الصالحين» أي إني من الصالحين و ستجدني منهم إن شاء الله فالاستثناء متعلق بوجدان موسى إياه منهم لا بكونه في نفسه منهم.

قوله تعالى: «قال ذلك بيني و بينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي و الله على ما نقول وكيل» الضمير لموسى (عليه السلام).

و قوله: «ذلك بيني و بينك» أي ذلك الذي ذكرته و قررته من المشارطة و المعاهدة و عرضته علي ثابت بيننا ليس لي و لا لك أن نخالف ما شارطناه، و قوله: «أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي» بيان للأجل المردد المضروب في كلام شعيب (عليه السلام) و هو قوله: «ثماني حجج و إن أتممت عشرا فمن عندك» أي لي أن أختار أي الأجلين شئت فإن اخترت الثماني سنين فليس لك أن تعدو علي و تلزمني بالزيادة و إن اخترت الزيادة و خدمتك عشرا فليس لك أن تعدو علي بالمنع من الزيادة.

و قوله: «و الله على ما نقول وكيل» توكيل له تعالى فيما يشارطان يتضمن إشهاده تعالى على ما يقولان و إرجاع الحكم و القضاء بينهما إليه لو اختلفا، و لذا اختار التوكيل على الإشهاد لأن الشهادة و القضاء كليهما إليه تعالى، و هذا كقول يعقوب (عليه السلام) حين أخذ الموثق من بنيه أن يردوا إليه ابنه فيما يحكيه الله: «فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل»: يوسف: 66.

بحث روائي

في كتاب كمال الدين، بإسناده إلى سدير الصيرفي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل: و جاء من أقصى المدينة رجل يسعى - قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك - فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب من مصر بغير ظهر و لا دابة و لا خادم تخفضه أرض و ترفعه أخرى حتى انتهى إلى أرض مدين. فانتهى إلى أصل شجرة فنزل فإذا تحتها بئر و إذا عندها أمة من الناس يسقون و إذا جاريتان ضعيفتان و إذا معهما غنيمة لهما قال ما خطبكما قالتا أبونا شيخ كبير و نحن جاريتان ضعيفتان لا نقدر أن نزاحم الرجال فإذا سقى الناس سقينا فرحمهما فأخذ دلوهما فقال لهما: قدما غنمكما فسقى لهما ثم رجعتا بكرة قبل الناس. ثم تولى موسى إلى الشجرة فجلس تحتها و قال: «رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير» فروي أنه قال ذلك و هو محتاج إلى شق تمرة فلما رجعتا إلى أبيهما قال: ما أعجلكما في هذه الساعة قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا. فقال لإحداهما اذهبي فادعيه لي فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا. فروي أن موسى (عليه السلام) قال لها: وجهني إلى الطريق و امشي خلفي فإنا بني يعقوب لا ننظر في أعجاز النساء، فلما جاءه و قص عليه القصص قال: لا تخف نجوت من القوم الظالمين. قال: إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين - على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك فروي أنه قضى أتمهما لأن الأنبياء (عليهم السلام) لا تأخذ إلا بالفضل و التمام.

أقول: و روى ما في معناه القمي في تفسيره.

و في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل حكاية عن موسى (عليه السلام): «رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير» قال: سأل الطعام.

أقول: و روى العياشي عن حفص عنه (عليه السلام): مثله، و لفظه إنما عنى الطعام: و أيضا عن ليث عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله، و في نهج البلاغة،: مثله و لفظه و الله ما سأله إلا خبزا يأكله.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما سقى موسى للجاريتين ثم تولى إلى الظل فقال: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير قال: إنه يومئذ فقير إلى كف من تمر.

و في تفسير القمي، قال: قالت إحدى بنات شعيب: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين، فقال لها شعيب (عليه السلام): أما قوته فقد عرفتنيه أنه يستقي الدلو وحده فبم عرفت أمانته؟ فقالت: إنه لما قال لي: تأخري عني و دليني على الطريق فإنا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء عرفت أنه ليس من الذين ينظرون أعجاز النساء فهذه أمانته: أقول: و روي مثله في المجمع، عن علي (عليه السلام).

و في المجمع، و روى الحسن بن سعيد عن صفوان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: رسائل أيتهما التي قالت: إن أبي يدعوك؟ قال: التي تزوج بها. قيل: فأي الأجلين قضى؟ قال: أوفاهما و أبعدهما عشر سنين. قيل: فدخل بها قبل أن يمضي الشرط أو بعد انقضائه؟ قال: قبل أن ينقضي. قيل له: فالرجل يتزوج المرأة و يشترط لأبيها إجارة شهرين أ يجوز ذلك؟ قال: إن موسى علم أنه سيتم له شرطه. قيل: كيف؟ قال: علم أنه سيبقى حتى يفي.

أقول: و روى قضاء عشر سنين في الدر المنثور، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدة طرق.

و في تفسير العياشي، و قال الحلبي: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن البيت أ كان يحج قبل أن يبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: نعم و تصديقه في القرآن قول شعيب حين قال لموسى (عليه السلام) حيث تزوج: «على أن تأجرني ثماني حجج» و لم يقل ثماني سنين.

العودة إلى القائمة

التالي