الميزان في تفسير القرآن

سورة طه

9 - 48

وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (45) قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)

بيان

شروع في قصة موسى (عليه السلام) و قد ذكرت في السورة فصول أربعة منها و هي: اختيار موسى للرسالة في جبل طور في وادي طوى و أمره بدعوة فرعون.

ثم دعوته بشركة من أخيه فرعون إلى التوحيد و إرسال بني إسرائيل معه و إقامته الحجة و إيتاؤه المعجزة.

ثم خروجه مع بني إسرائيل من مصر و تعقيب فرعون و غرقه و نجاة بني إسرائيل.

ثم عبادة بني إسرائيل العجل و ما انتهى إليه أمرهم و أمر السامري و عجله، و قد تعرضت الآيات التي نقلناها للفصل الأول منها.

و وجه اتصال القصة بما قبلها أنها تذكرة بالتوحيد و وعيد بالعذاب فالقصة تبتدىء بوحي التوحيد و تنتهي بقول موسى: «إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو» الآية و تذكر هلاك فرعون و طرد السامري و قد ابتدأت الآيات السابقة بأن القرآن المشتمل على الدعوة الحقة تذكرة لمن يخشى و انتهت إلى مثل قوله: «الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى».

قوله تعالى: «و هل أتاك حديث موسى» الاستفهام للتقرير و الحديث، القصة.

قوله تعالى: «إذ رءا نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا» إلى آخر الآية المكث اللبث، و الإيناس إبصار الشيء أو وجدانه و هو من الأنس خلاف النفور و لذا قيل: إنه إبصار شيء يؤنس به فيكون إبصارا قويا، و القبس بفتحتين هو الشعلة المقتبسة على رأس عود و نحوه و الهدى مصدر بمعنى اسم الفاعل أو مضاف إليه لمضاف مقدر أي ذا هداية، و المراد - على أي حال - من قام به الهداية.

و سياق الآية و ما يتلوها يشهد أنه كان في منصرفه من مدين إلى مصر و معه أهله و هم بالقرب من وادي طوى في طور سيناء في ليلة شاتية مظلمة و قد ضلوا الطريق إذ رأى نارا فرأى أن يذهب إليها فإن وجد عندها أحدا سأله الطريق و إلا أخذ قبسا من النار ليضرموا به نارا فيصطلوا بها.

و في قوله: «قال لأهله امكثوا» إشعار بل دلالة على أنه كان مع أهله غيره كما أن في قوله: «إني آنست نارا» مع ما يشتمل عليه من التأكيد و التعبير بالإيناس دلالة على أنه إنما رآها هو وحده و ما كان يراها غيره من أهله و يؤيد ذلك قوله أيضا أولا: «إذ رءا نارا»، و كذا قوله: «لعلي آتيكم» إلخ يدل على أن في الكلام حذفا و التقدير امكثوا لأذهب إليها لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هاديا نهتدي بهداه.

قوله تعالى: «فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك - إلى قوله - طوى» طوى اسم لواد بطور و هو الذي سماه الله سبحانه بالواد المقدس، و هذه التسمية و التوصيف هي الدليل على أن أمره بخلع النعلين إنما هو لاحترام الوادي أن لا يداس بالنعل ثم تفريع خلع النعلين مع ذلك على قوله: «إني أنا ربك» يدل على أن تقديس الوادي إنما هو لكونه حظيرة لقرب و موطن الحضور و المناجاة فيئول معنى الآية إلى مثل قولنا نودي يا موسى ها أنا ذا ربك و أنت بمحضر مني و قد تقدس الوادي بذلك فالتزم شرط الأدب و اخلع نعليك.

و على هذا النحو يقدس ما يقدس من الأمكنة و الأزمنة كالكعبة المشرفة و المسجد الحرام و سائر المساجد و المشاهد المحترمة في الإسلام و الأعياد و الأيام المتبركة فإنما ذلك قدس و شرف اكتسبته بالانتساب إلى واقعة شريفة وقعت فيها أو نسك و عبادة مقدسة شرعت فيها و إلا فلا تفاضل بين أجزاء المكان و لا بين أجزاء الزمان.

و لما سمع موسى (عليه السلام) قوله تعالى: «يا موسى إني أنا ربك» فهم من ذلك فهم يقين أن الذي يكلمه هو ربه و الكلام كلامه و ذلك أنه كان وحيا منه تعالى و قد صرح تعالى بقوله: «و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء»: الشورى: 51، أن لا واسطة بينه تعالى و بين من يكلمه من حجاب أو رسول إذا كان تكليم وحي و إذ لم يكن هناك أي واسطة مفروضة لم يجد الموحى إليه مكلما لنفسه و لا توهمه إلا الله و لم يجد الكلام إلا كلامه و لو احتمل أن يكون المتكلم غيره أو الكلام كلام غيره لم يكن تكليما ليس بين الإنسان و بين ربه غيره.

و هذا حال النبي و الرسول في أول ما يوحى إليه بالنبوة و الرسالة لم يختلجه شك و لا اعترضه ريب في أن الذي يوحي إليه هو الله سبحانه من غير أن يحتاج إلى إعمال نظر أو التماس دليل أو إقامة حجة و لو افتقر إلى شيء من ذلك كان اكتسابا بواسطة القوة النظرية لا تلقيا من الغيب من غير توسط واسطة.

فإن قلت: قوله تعالى في القصة في موضع آخر من كلامه: «و ناديناه من جانب الطور الأيمن و قربناه نجيا».

و قوله في موضع آخر: «من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة» يثبت الحجاب في تكليمه (عليه السلام).

قلت: نعم لكن ثبوت الحجاب أو الرسول في مقام التكليم لا ينافي تحقق التكليم بالوحي فإن الوحي كسائر أفعاله تعالى لا يخلو من واسطة و إنما يدور الأمر مدار التفات المخاطب الذي يتلقى الكلام فإن التفت إلى الواسطة التي تحمل الكلام و احتجب بها عنه تعالى كان الكلام رسالة أرسل إليه بملك مثلا و وحيا من الملك، و إن التفت إليه تعالى كان وحيا منه و إن كان هناك واسطة لا يلتفت إليها، و من الشاهد على ما ذكرنا قوله في الآية التالية خطابا لموسى: «فاستمع لما يوحى» فسماه وحيا، و قد أثبت في سائر كلامه فيه الحجاب.

و بالجملة قوله: «إني أنا ربك فاخلع نعليك» إلخ، تنبيه لموسى على أن الموقف موقف الحضور و مقام المشافهة و قد خلى به و خصه من نفسه بمزيد العناية، و لذا قيل: إني أنا ربك، و لم يقل: أنا الله أو أنا رب العالمين، و لذا أيضا لم يلزم من قوله ثانيا: «إني أنا الله» تكرار، لأن الأول تخلية للمقام من الأغيار لإلقاء الوحي، و الثاني من الوحي.

و في قوله: «نودي» حيث طوي ذكر الفاعل و لم يقل: ناديناه أو ناداه الله من اللطف ما لا يقدر بقدر، و فيه تلويح أن ظهور هذه الآية لموسى كان على سبيل المفاجاة.

قوله تعالى: «و أنا اخترتك فاستمع لما يوحى» الاختيار مأخوذ من الخير، و حقيقته أن يتردد أمر الفاعل مثلا بين أفعال يجب أن يرجح واحدا منها ليفعله فيميز ما هو خيرها ثم يبني على كونه خيرا من غيره فيفعله، فبناؤه على كونه خيرا من غيره هو اختيار فالاختيار دائما لغاية هو غرض الفاعل من فعله.

فاختياره تعالى لموسى إنما هو لغاية إلهية و هي إعطاء النبوة و الرسالة و يشهد بذلك قوله على سبيل التفريع على الاختيار «فاستمع لما يوحى» فقد تعلقت المشية الإلهية ببعث إنسان يتحمل النبوة و الرسالة و كان موسى في علمه تعالى خيرا من غيره و أصلح لهذا الغرض فاختاره (عليه السلام).

و قوله: «و أنا اخترتك» على ما يعطيه السياق من قبيل إصدار الأمر بنبوته و رسالته فهو إنشاء لا إخبار، و لو كان إخبارا لقيل: و قد اخترتك لكنه إنشاء الاختيار للنبوة و الرسالة بنفس هذه الكلمة ثم لما تحقق الاختيار بإنشائه فرع عليه الأمر بالاستماع للوحي المتضمن لنبوته و رسالته فقال: «فاستمع لما يوحى» و الاستماع لما يوحى الإصغاء إليه.

قوله تعالى: «إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني و أقم الصلاة لذكري» هذا هو الوحي الذي أمر (عليه السلام) بالاستماع له في إحدى عشرة آية تشتمل على النبوة و الرسالة معا أما النبوة ففي هذه الآية و الآيتين بعدها، و أما الرسالة فتؤخذ من قوله «و ما تلك بيمينك يا موسى» و تنتهي في قوله: «اذهب إلى فرعون إنه طغى» و قد نص تعالى أنه كان رسولا نبيا معا في قوله: «و اذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا و كان رسولا نبيا»: مريم: 51.

و قد ذكر في الآيات الثلاث المشتملة على النبوة الركنان معا و هما ركن الاعتقاد و ركن العمل، و أصول الاعتقاد ثلاثة التوحيد و النبوة و المعاد و قد ذكر منها التوحيد و المعاد و طوي عن النبوة لأن الكلام مع النبي نفسه و أما ركن العمل فقد لخص على ما فيه من التفصيل في كلمة واحدة هي قوله: «فاعبدني» فتمت بذلك أصول الدين و فروعه في ثلاث آيات.

فقوله: «إنني أنا الله لا إله إلا أنا» عرف المسمى بالاسم بنفسه حيث قال: إنني أنا الله و لم يقل: إن الله هو أنا لأن مقتضى الحضور أن يعرف وصف الشيء بذاته لا ذاته بوصفه كما قال إخوة يوسف لما عرفوه: «إنك لأنت يوسف قال أنا يوسف و هذا أخي» و اسم الجلالة و إن كان علما للذات المتعالية لكنه يفيد معنى المسمى بالله إذ لا سبيل إلى الذات المقدسة فكأنه قيل: أنا الذي يسمى «الله» فالمتكلم حاضر مشهود و المسمى باسم «الله» كأنه مبهم أنه من هو؟ فقيل أنا ذاك على أن اسم الجلالة علم بالغلبة لا يخلو من أصل وصفي.

و قوله: «لا إله إلا أنا فاعبدني» كلمة التوحيد مرتبة على قوله: «إنني أنا الله» لفظا لترتبها عليه حقيقة فإنه إذا كان هو الذي منه يبدأ كل شيء و به يقوم و إليه يرجع فلا ينبغي أن يخضع خضوع العبادة إلا له فهو الإله المعبود بالحق لا إله غيره و لذا فرع على ذلك الأمر بعبادته حيث قال: «فاعبدني».

و قوله: «و أقم الصلاة لذكري» خص الصلاة بالذكر - و هو من باب ذكر الخاص بعد العام اعتناء بشأنه - لأن الصلاة أفضل عمل يمثل به الخضوع العبودي و يتحقق بها ذكر الله سبحانه تحقق الروح بقالبه.

و على هذا المعنى فقوله: «لذكري» من إضافة المصدر إلى مفعوله و اللام للتعليل و هو متعلق بأقم محصله أن: حقق ذكرك لي بالصلاة، كما يقال: كل لتشبع و اشرب لتروي و هذا هو المعنى السابق إلى الذهن من مثل هذا السياق.

و قد تكاثرت الأقوال في قوله: «لذكري» فقيل: إنه متعلق بأقم كما تقدم و قيل: بالصلاة، و قيل: بقوله: «فاعبدني» ثم اللام قيل: للتعليل، و قيل للتوقيت و المعنى أقم الصلاة عند ذكري أو عند ذكرها إذا نسيتها أو فاتت منك فهي كاللام في قوله: «أقم الصلوة لدلوك الشمس»: الإسراء: 78.

ثم الذكر قيل: المراد به الذكر اللفظي الذي تشتمل عليه الصلاة، و قيل الذكر القلبي الذي يقارنها و يتحقق بها أو يترتب عليها و يحصل بها حصول المسبب عن سببه أو الذكر الذي قبلها، و قيل: المراد الأعم من القلبي و القالبي.

ثم الإضافة قيل: إنها من إضافة المصدر إلى مفعوله، و قيل: من إضافة المصدر إلى فاعله و المراد صل لأن أذكرك بالثناء و الإثابة أو المراد صل لذكري إياها في الكتب السماوية و أمري بها.

و قيل: إنه يفيد قصر الإقامة في الذكر، و المعنى: أقم الصلاة لغرض ذكري لا لغرض آخر غير ذكري كثواب ترجوه أو عقاب تخافه، و قيل: لا قصر.

و قيل: إنه يفيد قصر المضاف في المضاف إليه، و المراد: أقم الصلاة لذكري خاصة من غير أن ترائي بها أو تشوبها بذكر غيري، و قيل: لا دلالة على ذلك من جهة اللفظ و إن كان حقا في نفسه.

و قيل: المراد بالذكر ذكر الصلاة أي أقم الصلاة عند تذكرها أو لأجل ذكرها و الكلام على تقدير مضاف و الأصل لذكر صلاتي أو على أن ذكر الصلاة سبب لذكر الله فأطلق المسبب و أريد به السبب إلى غير ذلك و الوجوه الحاصلة بين غث و سمين.

و الذي يسبق إلى الفهم هو ما قدمناه.

قوله تعالى: «إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى» تعليل لقوله في الآية السابقة: «فاعبدني» و لا يناقض ذلك كون «فاعبدني» متفرعا على كلمة التوحيد المذكورة قبله لأن وجوب عبادته تعالى و إن كان بحسب نفسه متفرعا على توحده لكنه لا يؤثر أثرا لو لا ثبوت يوم يجزى فيه الإنسان بما عمله و يتميز فيه المحسن من المسيء و المطيع من العاصي فيكون التشريع لغوا و الأمر و النهي سدى لا أثر لهما، و لذلك كانت مقضية قضاء حتما و تكرر في كلامه تعالى نفي الريب عنها.

و قوله: «أكاد أخفيها» ظاهر إطلاق الإخفاء أن المراد يقرب أن أخفيها و أكتمها فلا أخبر عنها أصلا حتى يكون وقوعها أبلغ في المباغتة و أشد في المفاجاة و لا تأتي إلا فجأة كما قال تعالى: «لا تأتيكم إلا بغتة»: الأعراف: 187، أو يقرب أن لا أخبر بها حتى يتميز المخلصون من غيرهم فإن أكثر الناس إنما يعبدونه تعالى رجاء في ثوابه أو خوفا من عقابه جزاء للطاعة و المعصية، و أصدق العمل ما كان لوجه الله لا طمعا في جنة أو خوفا من نار و لو أخفي و كتم يوم الجزاء تميز عند ذلك من يأتي بحقيقة العبادة من غيره.

و قيل: معنى أكاد أخفيها أقرب من أن أكتمها من نفسي و هو مبالغة في الكتمان إذا أراد أحدهم المبالغة في كتمان شيء، قال: كدت أخفيه من نفسي أي فكيف أظهره لغيري؟ و عزي إلى الرواية.

و قوله: «لتجزى كل نفس بما تسعى» متعلق بقوله: «آتية» و المعنى واضح.

قوله تعالى: «فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها و اتبع هواه فتردى» الصد الصرف، و الردى الهلاك، و الضميران في «عنها» و «بها» للساعة، و معنى الصد عن الساعة الصرف عن ذكرها بما لها من الشأن و هو أنها يوم تجزى فيه كل نفس بما تسعى، و كذا معنى عدم الإيمان بها هو الكفر بها بما لها من الشأن.

و قوله: «و اتبع هواه» كعطف التفسير بالنسبة إلى قوله: «من لا يؤمن بها» أي إن عدم الإيمان بها مصداق اتباع الهوى و إذ كان مع ذلك صالحا للتعليل أفاد الكلام علية الهوى لعدم الإيمان بها، و استفيد من ذلك بالالتزام أن الإيمان بالساعة هو الحق المخالف للهوى و المنجي من الردى.

فمحصل معنى الآية أنه إذا كانت الساعة آتية و الجزاء واقعا فلا يصرفنك عن الإيمان بها و ذكرها بما لها من الشأن الذين اتبعوا أهواءهم فصاروا يكفرون بها و يعرضون عن عبادة ربهم فلا يصرفنك عنها حتى تنصرف فتهلك.

و لعل الإتيان في قوله: «و اتبع هواه» بصيغة الماضي مع كون المعطوف عليه بصيغة المضارع للتلويح إلى علية اتباع الهوى لعدم الإيمان.

قوله تعالى: «و ما تلك بيمينك يا موسى» شروع في وحي الرسالة و قد تم وحي النبوة في الآيات الثلاث الماضية و الاستفهام للتقرير، سئل (عليه السلام) عما في يده اليمنى و كانت عصاه، ليسميها و يذكر أوصافها فيتبين أنها جماد لا حياة له حتى يأخذ تبديلها حية تسعى مكانه في نفسه (عليه السلام).

و الظاهر أن المشار إليه بقوله: «تلك» العودة أو الخشبة، و لو لا ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: و ما ذلك بجعل المشار إليه هو الشيء لمكان التجاهل بكونها عصا و إلا لم يستقم الاستفهام كما في قوله: «فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر:» الأنعام: 78.

و يمكن أن تكون الإشارة بتلك إلى العصا لكن لا بداعي الاطلاع على اسمها و حقيقتها حتى يلغو الاستفهام بل بداعي أن يذكر ما لها من الأوصاف و الخواص و يؤيده ما في كلام موسى (عليه السلام) من الإطناب بذكر نعوت العصا و خواصها فإنه لما سمع السؤال عما في يمينه و هي عصا لا يرتاب فيها فهم أن المطلوب ذكر أوصافها فأخذ يذكر اسمها ثم أوصافها و خواصها، و هذه طريق معمولة فيما إذا سئل عن أمر واضح لا يتوقع الجهل به و من هذا الباب يوجه قوله تعالى: «القارعة ما القارعة و ما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث»: القارعة: 4، و قوله: «الحاقة ما الحاقة و ما أدراك ما الحاقة:» الحاقة: 3.

قوله تعالى: «قال هي عصاي أتوكأ عليها و أهش بها على غنمي و لي فيها مآرب أخرى» العصا معروفة و هي من المؤنثات السماعية، و التوكي و الاتكاء على العصا الاعتماد عليها، و الهش هو خبط ورق الشجرة و ضربه بالعصا لتساقط على الغنم فيأكله، و المآرب جمع مأربة مثلثة الراء و هي الحاجة، و المراد بكون مآربه فيها تعلق حوائجه بها من حيث إنها وسيلة رفعها.

و معنى الآية ظاهر.

و إطنابه (عليه السلام) بالإطالة في ذكر أوصاف العصا و خواصها قيل: لأن المقام و هو مقام المناجاة و المسارة مع المحبوب يقتضي ذلك لأن مكالمة المحبوب لذيذة و لذا ذكر أولا أنه عصاه ليرتب عليه منافعها العامة و هذه هي النكتة في ذكر أنها عصاه.

و قد قدمنا في ذيل الآية السابقة وجها آخر لهذا الاستفهام و جوابه و ليس الكلام عليه من باب الإطناب و خاصة بالنظر إلى جمعه سائر منافعها في قوله: «و لي فيها مآرب أخرى».

قوله تعالى: «قال ألقها يا موسى - إلى قوله - سيرتها الأولى» السيرة الحالة و الطريقة و هي في الأصل بناء نوع من السير كجلسة لنوع من الجلوس.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي