الميزان في تفسير القرآن

سورة النحل

41 - 64

تابع
وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (47) أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)

و أول ما بدا لهم ذلك أن بني تميم غزوا كسرى فهزمهم و سبى نساءهم و ذراريهم فأدخلهن دار الملك و اتخذ البنات جواري و سرايا ثم اصطلحوا بعد برهة و استردوا السبايا فخيرن في الرجوع إلى أهلهن فامتنعت عدة من البنات فأغضب ذلك رجال بني تميم فعزموا لا تولد لهم أنثى إلا وأدوها و دفنوها حية ثم تبعهم في ذلك بعض من دونهم فشاع بينهم وأد البنات.

و قوله: «ألا ساء ما يحكمون» هو حكمهم أن له البنات و لهم البنون لا لهوان البنات و كرامة البنين في نفس الأمر بل معنى هذا الحكم عندهم أن يكون لله ما يكرهون و لهم ما يحبون، و قيل: المراد بالحكم حكمهم بوجوب وأد البنات و كون إمساكهن هونا، و أول الوجهين أوفق و أنسب للآية التالية.

قوله تعالى: «للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء و لله المثل الأعلى و هو العزيز الحكيم» المثل هو الصفة و منه سمي المثل السائر مثلا لأنه صفة تسير في الألسن و تجري في كل موضع تناسبه و تشابهه.

و السوء - بالفتح و السكون - مصدر ساء يسوء كما أن السوء بالضم اسمه و إضافة المثل إلى السوء تفيد التنويع فإن الأشياء إنما توصف إما من جهة حسنها و إما من جهة سوئها و قبحها فالمثل مثلان: مثل الحسن و مثل السوء.

و الحسن و القبح ربما كانا من جهة الخلقة لا صنع للإنسان و لا مدخل لاختياره فيهما كحسن الوجه و دمامة الخلقة، و ربما لحقا من جهة الأعمال الاختيارية كحسن العدل و قبح الظلم، و إنما يحمد و يذم العقل ما كان من القسم الثاني دون القسم الأول فيدور الحمد و الذم بحسب الحقيقة مدار العمل بما تستحسنه و تأمر به الفطرة الإنسانية من الأعمال التي توصله إلى ما فيه سعادة حياته و ترك العمل بها و هو الذي يتضمنه الدين الحق من أحكام الفطرة.

و من المعلوم أن الطبع الإنساني لا رادع له عن اقتراف العمل السيىء إلا أليم المؤاخذة و شديد العقاب و إذعانه بإيقاعه و إنجازه، و أما الذم فإنه يتبدل مدحا إذا شاع الفعل و خرج بذلك عن كونه منكرا غير معروف.

و من هنا يظهر أن الإيمان بالآخرة و الإذعان بالحساب و الجزاء هو الأصل الوحيد الذي يضمن حفظ الإنسان عن اقتراف الأعمال السيئة و يجيره من لحوق أي ذم و خزي و هو المنشأ الذي يقوم أعمال الإنسان تقويما يحمله على ملازمة طريق السعادة، و لا يؤثر أثره أي شيء آخر من المعارف الأصلية حتى التوحيد الذي إليه ينتهي كل أصل.

و إلى ذلك يشير قوله تعالى: «و لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب»: ص: 26.

فعدم الإيمان بالآخرة و استخفاف أمر الحساب و الجزاء هو مصدر كل عمل سيىء و مورده، و بالمقابلة الإيمان بالآخرة هو منشأ كل حسنة و منبع كل خير و بركة.

فكل مثل سوء و صفة قبح يلزم الإنسان و يلحقه فإنما يأتيه من قبل نسيان الآخرة كما أن كل مثل حسن و صفة حمد بالعكس من ذلك.

و بما تقدم يظهر النكتة في قوله: «للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء» فقد كان يصفهم في الآيات السابقة بالشرك فلما أراد بيان أن لهم مثل السوء بدل ذلك من وصفهم بعدم إيمانهم بالآخرة.

فالذين لا يؤمنون بالآخرة هم الأصل في عروض كل مثل سوء و صفة قبح فإن ملاكه و هو إنكار الآخرة نعتهم اللازم لهم.

و لو لحق بعض المؤمنين بالآخرة شيء من مثل السوء فإنما يلحقه لنسيان ما ليوم الحساب و المنكرون هم الأصل في ذلك.

هذا في صفات السوء التي يستقبحها العقل و يذمها و هناك صفات سوء لا يستقبحها العقل و إنما يكرهها الطبع كالأنوثة عند قوم و إيلاد البنات عند آخرين و الفقر المالي و المرض و كالموت و الفناء و العجز و الجهل تشترك بين المؤمن و الكافر و صفات أخرى تحليلية كالفقر و الحاجة و النقص و العدم و الإمكان لا تختص بالإنسان بل هي مشتركة بين جميع الممكنات سارية في عامة الخلق، و الكافر يتصف بها كما يتصف بها غيره فالكافر في معرض الاتصاف بكل مثل سوء منها ما يختص به و منها ما يشترك بينه و بين غيره كما بين تفصيلا.

و الله سبحانه منزه من أن يتصف بشيء من هذه الصفات التي هي أمثال السوء أما أمثال السوء التي تتحصل من ناحية سيئات الأعمال مما يستقبحه العقل و يذمه و يجمعها الظلم فلأنه لا يظلم شيئا قال تعالى: «و لا يظلم ربك أحدا»: الكهف: 49، و قال: «و هو الحكيم العليم»: الزخرف: 84، فما قضاه من حكم أو فعله من شيء فهو المتعين في الحكمة لا يصلح بالنظر إلى النظام الجاري في الوجود إلا ذاك.

و أما أمثال السوء مما يستكرهه الطبع أو يحلله العقل فلا سبيل لها إليه تعالى فإنه عزيز مطلق يمتنع جانبه من أن تسرب إليه ذلة فإن له كل القدرة لا يعرضه عجز، و له العلم كله فلا يطرأ عليه جهل، و له محض الحياة لا يهدده موت و لا فناء منزه عن كل نقص و عدم فلا يتصف بصفات الأجسام مما فيه نقص أو فقد أو قصور أو فتور، و الآيات في هذه المعاني كثيرة ظاهرة لا حاجة إلى إيرادها.

فهو سبحانه ذو علو و نزاهة من أن يتصف بشيء من أمثال السوء التي يتصف بها غيره، و لا هذا المقدار من التنزه و التقدس فحسب بل منزه من أن يتصف بشيء من الأمثال الحسنة و الصفات الجميلة الكريمة بمعانيها التي يتصف بها غيره كالحياة و العلم و القدرة و العزة و العظمة و الكبرياء و غيرها، فإن الذي يوجد من هذه الصفات الحسنة الكمالية في الممكنات محدودة متناه مشوب بالفقر و الحاجة مخلوط بالفقدان و النقيصة لكن الذي له سبحانه من الصفات محض الكمال و حقيقته غير محدودة و لا متناه و لا مشوب بنقص و عدم، فله حياة لا يهددها موت، و قدرة لا يعتريها عي و عجز، و علم لا يقارنه جهل، و عزة ليس معها ذلة.

فله المثل الأعلى و الصفة الحسنى، قال تعالى: «و له المثل الأعلى في السماوات و الأرض: الروم: 27، و قال: «له الأسماء الحسنى»: طه: 8، فالأمثال منها دانية و منها عالية و العالية منها أعلى و منها غيره، و الأعلى مثله تعالى و الأسماء سيئة و حسنة و الحسنة منها أحسن و غيره و لله منها ما هو أحسن فافهم ذلك.

فقد تبين بما تقدم معنى كون مثله أعلى، و أن قوله: «و لله المثل الأعلى» مسوق للحصر أي لله المثل الذي هو أعلى دون المثل الذي هو سيىء دان و دون المثل الذي هو حسن عال من صفات الكمال الذي تتصف به الممكنات و ليس بأعلى.

و تبين أيضا أن المثل الأعلى الذي يظهر له تعالى من البيان السابق هو انتفاء جميع الصفات السيئة عنه كما قال: «ليس كمثله شيء»: الشورى: 11، و من الصفات الثبوتية كل صفة حسنة منفيا عنه الحدود و النواقص.

و قوله: «و هو العزيز الحكيم» مسوق لإفادة الحصر و تعليل ما تقدمه أي و هو الذي له كل العزة فلا تعتريه ذلة أصلا لأن كل ذلة فهو فقد عزة ما و ليس يفقد عزة ما، و له كل الحكمة فلا يعرضه جهالة لأنها فقد حكمة ما و ليس يفقد شيئا من الحكمة.

و إذ لا سبيل لذلة و لا جهالة إليه فلا يتصف بشيء من صفات النقص، و لا ينعت بشيء من نعوت الذم و أمثال السوء، لكن الكافر ذليل في ذاته جهول في نفسه فتلحقه و تلازمه صفات النقص و يتصف بصفات الذم و أمثال السوء فللذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء.

و المؤمن و إن كان ذليلا في ذاته جهولا في نفسه كالكافر إلا أنه لدخوله في ولاية الله أعزه ربه بعزته و أظهره على الجهالة بتأييده بروح منه قال تعالى: «و الله ولي المؤمنين»: آل عمران: 68، و قال: «و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين»: المنافقون: 8، و قال: «أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و أيدهم بروح منه»: المجادلة: 22.

قوله تعالى: «و لو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة» إلى آخر الآية.

ضمير «عليها» عائد إلى الأرض لدلالة «الناس» عليها.

و لا يبعد أن يدعى أن السياق يدل على كون المراد بالدابة الإنسان فقط من جهة كونه يدب و يتحرك، و المعنى و لو أخذ الله الناس بظلمهم مستمرا على المؤاخذة ما ترك على الأرض من إنسان يدب و يتحرك، أما جل الناس فإنهم يهلكون بظلمهم و أما الأشذ الأندر و هم الأنبياء و الأئمة المعصومون من الظلم فهم لا يوجدون لهلاك آبائهم و أمهاتهم من قبل.

و القوم أخذوا الدابة في الآية بإطلاق معناها و هو كل ما يدب على الأرض من إنسان و حيوان فعاد معنى الآية إلى أنه لو يؤاخذهم بظلمهم لأهلك البشر و كل حيوان على الأرض فتوجه إليه: أن هذا هو الإنسان يهلك بظلمه فما بال سائر الحيوان يهلك و لا ظلم له أو يهلك بظلم من الإنسان؟.

و أوجه ما أجيب به عنه قول بعضهم بإصلاح منا: إن الله تعالى لو أخذهم بظلمهم بكفر أو معصية لهلك عامة الناس بظلمهم إلا المعصومين منهم و أما المعصومون على شذوذهم و قلة عددهم فإنهم لا يوجدون لهلاك آبائهم و أمهاتهم من قبل، و إذا هلك الناس و بطل النسل هلكت الدواب من سائر الحيوان لأنها مخلوقة لمنافع العباد و مصالحهم كما يشعر به قوله تعالى: «خلق لكم ما في الأرض جميعا»: البقرة: 29.

و لهم وجوه أخر في الذب عن الآية على تقدير عموم الدابة فيها لا جدوى في نقلها من أرادها فليراجع مطولات التفاسير.

و احتج بعضهم بالآية على عدم عصمة الأنبياء (عليهم السلام)، و فيه أن الآية لا تدل على أزيد من أنه تعالى لو أخذ بالظلم لهلك جميع الناس و انقرض النوع، و أما أن كل من يهلك فإنما هلك عن ظلمه فلا دلالة لها عليه فمن الجائز أن يهلك الأكثرون بظلمهم و يفنى الأقلون بفناء آبائهم و أمهاتهم كما تقدم فلا دلالة في الآية على استغراق الظلم الأفراد حتى الأنبياء و المعصومين و إنما تدل على استغراق الفناء.

و ربما قيل في الجواب إن المراد بالناس الظالمون منهم بقرينة قوله: «بظلمهم» فلا يشمل المعصومين من رأس.

و ربما أجيب: أن المراد بالظلم أعم من المعصية التي هي مخالفة الأمر المولوي و ترك الأولى الذي هو مخالفة الأمر الإرشادي و ربما صدر عن الأنبياء (عليهم السلام) كما حكى عن آدم و زوجه: «قالا ربنا ظلمنا أنفسنا»: الأعراف: 23، و غيره من الأنبياء فحسنات الأبرار سيئات المقربين و حينئذ فلا يدل عموم الظلم في الآية للأنبياء على عدم عصمة الأنبياء عن المعصية بمعنى مخالفة الأمر المولوي.

و ربما أجيب بأن إهلاك جميع الناس إنما هو بأن الله يمسك عن إنزال المطر على الأرض لظلم الظالمين من الناس فيهلك به الظالمون و الأولياء و الدواب فإن العذاب إذا نزل لم يفرق بين الشقي و السعيد فيكون على العدو نقمة و نكالا و على غيره محنة و مزيد أجر.

و الأجوبة الثلاثة غير تامة جميعا: أما الأول: فإن اختصاص الناس بالظالمين يوجب اختصاص الهلاك بهم كما ادعي فلا يعم الهلاك المعصومين، و لا موجب حينئذ لهلاك سائر الدواب المخلوقة للإنسان فلا يستقيم قوله: «ما ترك عليها من دابة» كما لا يخفى.

و أما الثاني: فلأن الآيات بما لها من السياق تبحث عن الظلم بمعنى الشرك و سائر المعاصي المولوية فتعميم الظلم في الآية لترك الأولى و خاصة بالنظر إلى ذيل الآية «و لكن يؤخرهم إلى أجل مسمى» الظاهر في الإيعاد لا يلائم السياق.

و أما الثالث: فلعدم دليل من جهة اللفظ على ما ذكر فيه.

و قوله: «و لكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون» استدراك عن مقدر يدل عليه الجملة الشرطية في صدر الآية و التقدير: فلا يعاجل في مؤاخذتهم و لكن يؤخرهم إلى أجل مسمى و الأجل المسمى بالنسبة إلى الفرد من الإنسان موته المحتوم، و بالنسبة إلى الأمة يوم انقراضها و بالنسبة إلى عامة البشر نفخ الصور و قيام الساعة، و لكل منها ذكر في كلامه تعالى قال: «و منكم من يتوفى من قبل و لتبلغوا أجلا مسمى»: المؤمن: 67، و قال: «و لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون»: الأعراف: 34، و قال: «و لو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم»: الشورى: 14.

قوله تعالى: «و يجعلون لله ما يكرهون و تصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى» إلى آخر الآية، عود إلى نسبة المشركين إليه تعالى البنات و اختيارهم لأنفسهم البنين و هم يكرهون البنات و يحبون البنين و يستحسنونهم.

فقوله: «و يجعلون لله ما يكرهون» يعني البنات و قوله: «و تصف ألسنتهم الكذب» أي تخبر ألسنتهم الخبر الكاذب و هو «أن لهم الحسنى» أي العاقبة الحسنى من الحياة و هي أن يخلفهم البنون، و قيل المراد بالحسنى الجنة على تقدير صحة البعث و صدق الأنبياء فيما يخبرون به كما حكاه عنهم في قوله: «و لئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي و ما أظن الساعة قائمة و لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى»: حم السجدة: 50، و هذا الوجه لا بأس به لو لا ذيل الآية بما سيجيء من معناه.

و قوله: «لا جرم أن لهم النار و أنهم مفرطون» أي المقدمون إلى عذاب النار يقال فرط و أفرط أي تقدم و الإفراط الإسراف في التقدم كما أن التفريط التقصير فيه، و الفرط بفتحتين هو الذي يسبق السيارة لتهيئة المسكن و الماء، و يقال: أفرطه أي قدمه.

و لما كان قولهم كذبا و افتراء إن لله ما يكرهون و لهم الحسنى في معنى دعوى أنهم سبقوا ربهم إلى الحسنى و تركوا له ما يكرهون أوعدهم بحقيقة هذا الزعم جزاء لكذبهم و هو أن لهم النار و أنهم مقدمون إليها حقا و ذلك قوله: «لا جرم أن لهم النار» إلخ.

قوله تعالى: «تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم و لهم عذاب أليم» ظاهر السياق أن المراد باليوم يوم نزول الآية و المراد بكون الشيطان وليا لهم يومئذ اتفاقهم على الضلال في زمان الوحي و المراد بالعذاب الموعود عذاب يوم القيامة كما هو ظاهر غالب الآيات التي توعد بالعذاب.

و المعنى: تالله لقد أرسلنا رسلنا إلى أمم من قبلك كاليهود و النصارى و المجوس ممن لم ينقرضوا كعاد و ثمود فزين لهم الشيطان أعمالهم فاتبعوه و أعرضوا عن رسلنا فهو وليهم اليوم و هم متفقون على الضلال و لهم يوم القيامة عذاب أليم.

و جوز الزمخشري على هذا الوجه أن يكون ضمير «وليهم» لقريش و المعنى أن الشيطان زين للأمم الماضين أعمالهم و هو اليوم ولي قريش و يبعده لزوم اختلاف الضمائر.

و يمكن أن يكون المراد بالأمم الأمم الماضين و الهالكين فولاية الشيطان لهم اليوم كونهم من أولياء الشيطان في البرزخ و لهم هناك عذاب أليم.

و قيل: المراد باليوم مدة الدنيا فهي يوم الولاية و العذاب يوم القيامة.

و قيل: المراد به يوم القيامة فهناك ولاية الشيطان لهم و لهم هناك عذاب أليم.

و قيل: المراد يوم تزيين الشيطان أعمالهم و هو من قبيل حكاية الحال الماضية.

و أقرب الوجوه أولها ثم التالي فالتالي و الله أعلم.

قوله تعالى: «و ما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه» إلخ ضمير لهم للمشركين و المراد بالذي اختلفوا فيه هو الحق من اعتقاد و عمل فيكون المراد بالتبين الإيضاح و الكشف لإتمام الحجة، و الدليل على هذا الذي ذكرنا تفريق أمر المؤمنين منهم و إفرادهم بالذكر في قوله: «و هدى و رحمة لقوم يؤمنون».

و المعنى: هذا حال الناس في الاختلاف في المعارف الحقة و الأحكام الإلهية و ما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتكشف لهؤلاء المختلفين الحق الذي اختلف فيه فيتم لهم الحجة، و ليكون هدى و رحمة لقوم يؤمنون يهديهم الله به إلى الحق و يرحمهم بالإيمان به و العمل.

بحث روائي

في الكافي، بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» قال: الذكر محمد و نحن أهله المسئولون الحديث.

أقول: يشير (عليه السلام) إلى قوله تعالى: «قد أنزل الله عليكم ذكرا رسولا»: الطلاق: 11 و في معناه روايات كثيرة.

و في تفسير البرهان، عن البرقي بإسناده عن عبد الكريم بن أبي الديلم عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال جل ذكره: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» قال: الكتاب الذكر و أهله آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر الله عز و جل بسؤالهم و لم يأمر بسؤال الجهال و سمى الله عز و جل القرآن ذكرا فقال تبارك و تعالى «و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم و لعلهم يتفكرون» و قال تعالى: «و إنه لذكر لك و لقومك و سوف تسئلون».

أقول: و هذا احتجاج على كونهم أهل الذكر بأن الذكر هو القرآن و أنهم أهله لكونهم قوم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الآيتان في آخر الكلام للاستشهاد على ذلك كما صرح بذلك في غيره من الروايات، و في معنى الحديث أحاديث أخر.

و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له إن من عندنا يزعمون أن قول الله تعالى: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» أنهم اليهود و النصارى فقال: إذا يدعونكم إلى دينهم قال ثم قال: بيده إلى صدره: نحن أهل الذكر و نحن المسئولون. قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): الذكر القرآن.

أقول: و روي نظير هذا البيان عن الرضا (عليه السلام) في مجلس المأمون.

يتبع...

العودة إلى القائمة

التالي