التالي

شبهات وردود

السابق

فيما يلي نعرض بعض الشبهات التي روّجها البعض متشبثاً بها للدلالة على وقوع التحريف، وسنبيّن وجوه اندفاعها:

الأَِولى: أنّه كان لاَمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) مصحف غير المصحف الموجود، وقد أتى به إلى القوم فلم يقبلوا منه، وكان مصحفه مشتملاً على أبعاض ليست موجودة في القرآن الذي بين أيدينا، ممّا يترتّب عليه أنّ المصحف الموجود ناقصٌ بالمقارنة مع مصحف أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا هو التحريف الذي وقع الكلام فيه.

نقول: نعم، تفيد طائفةٌ من أحاديث الشيعة وأهل السنة أنّ علياً (عليه السلام) اعتزل الناس بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليجمع القرآن العظيم، وفي بعض الروايات: أنّ عمله ذاك كان بأمر الرسول الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّه (عليه السلام) قال: "لا أرتدي حتّى أجمعه"، وروي أنّه لم يرتدِ إلاّ للصلاة حتّى جمعه1.

ولكن أعلام الطائفة يذكرون بأنّ غاية ما تدلّ عليه الاَحاديث أنّ مصحف علي (عليه السلام) يمتاز عن المصحف الموجود بأنّه، كان مرتّباً على حسب النزول، وأنّه قدّم فيه المنسوخ على الناسخ، وكتب فيه تأويل بعض الآيات وتفسيرها بالتفصيل على حقيقة تنزيلها، أي كتب فيه التفاسير المنزلة تفسيراً من قبل الله سبحانه، وأنّ فيه المحكم والمتشابه، وأنّ فيه أسماء أهل الحقّ والباطل، وأنّه كان بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخطّ علي (عليه السلام)، وأنّ فيه فضائح قومٍ من المهاجرين والاَنصار، وجميع هذه الاختلافات لا توجب تغايراً في أصل القرآن وحقيقته.

وأهمّ ما في هذه الاختلافات هو الزيادة التي كانت في مصحفه (عليه السلام) والتي يخلو عنها المصحف الموجود، وهذه الزيادة قد تكون من جملة الاحاديث القدسية والتي هي وحي وليست بقرآن، كما نصّ عليه الشيخ الصدوق في "الاعتقادات"2. وقد تكون من جهة التأويل والتفسير وليست من أبعاض القرآن.

قال الشيخ المفيد رحمَهُ الله في "أوائل المقالات": "ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين (عليه السلام) من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله، وذلك كان مثبتاً منزلاً، وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً، قال الله تعالى: ((ولاتعْجَل بالقُرآنِ مِن قَبْل أن يُقْضى إليْكَ وَحْيُه وَقُلْ رَبِّ زِدْني عِلماً)) (طه 20: 114) فيسمّى تأويل القرآن قرآناً، وهذا ما ليس فيه بين أهل التفسير اختلاف"3.

وقال السيد الخوئي: "إنّ اشتمال قرآنه (عليه السلام) على زيادات ليست في القرآن الموجود، وإن كان صحيحاً، إلاّ أنّه لا دلالة في ذلك على أنّ هذه الزيادات كانت من القرآن وقد أُسقطت منه بالتحريف، بل الصحيح أنّ تلك الزيادات كانت تفسيراً بعنوان التأويل، وما يؤول إليه الكلام، أو بعنوان التنزيل من الله تعالى شرحاً للمراد"4.

وخلاصة القول أنّ الادّعاء بوجود زيادات في مصحف عليّ (عليه السلام) هي من القرآن ادِّعاءٌ بلا دليل وهو باطل قطعاً، ويدلّ على بطلانه جميع ماتقدم من الاَدلة القاطعة على عدم التحريف في القرآن.

الثانية: أنّ بعض الاَحاديث تفيد أنّ القرآن الكريم على عهد الاِمام المهدي (عليه السلام) يختلف عمّا هو عليه الآن، ممّا يفضي إلى الشكّ في هذا القرآن الموجود، ومن هذه الروايات:

  1. ما رواه الفتّال والشيخ المفيد، عن أبي جعفر (عليه السلام): "إذا قام القائم من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ضرب فساطيط لمن يُعلّم الناس القرآن على ما أنزله الله عزّ وجل، فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم، لاَنّه يخالف فيه التأليف"5، وروى نحوه النعماني في الغيبة6.

  2. ما رواه الكليني في "الكافي" عن سالم بن سلمة، قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): "إذا قام القائم قرأ كتاب الله عزّ وجل على حدّه، وأخرج المصحف الذي كتبه علي (عليه السلام)"7.

هذان الحديثان وسواهما ممّا اعتمده القائلون بهذه الشبهة جميعها ضعيفة، وإذا تجاوزنا النظر في أسانيدها نقول: لعلّ السرّ في تعليمه الناس القرآن هو مخالفة مصحفه (عليه السلام) للمصحف الموجود الآن من حيث التأليف، كما تدلّ عليه الرواية المتقدّمة عن أبي جعفر (عليه السلام)، أو مخالفته من حيث الخصائص والميزات المذكورة في مصحف علي (عليه السلام) كما تدلّ عليه الرواية الثانية، فعندئذٍ يحتاج إلى تفسيره وتأويله على حقيقة تنزيله، فهذه الشبهة مبتنيةٌ إذن على الشبهة السابقة، ومندفعةٌ باندفاعها، إذ إنّ القرآن في عهده (صلوات الله عليه) لا يختلف عن هذا القرآن الموجود من حيث الاَلفاظ، وإنمّا الاختلاف في الترتيب، أو في الزيادات التفسيرية، كما تقدّم بيانه في الشبهة الاَُولى.

الثالثة: أنّ التحريف قد وقع في التوراة والانجيل، وقد ورد في الاَحاديث عن النبي الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "يكون في هذه الاَُمّة كلّ ما كان في بني إسرائيل، حذو النعل بالنعل، وحذو القذّة بالقذّة"8. ونتيجة ذلك أنّ التحريف لابدّ من وقوعه في القرآن الكريم كما وقع في العهدين، وهذا يوجب الشكّ في القرآن الموجود بين المسلمين، وإلاّ لم يصحّ معنى هذه الاَحاديث.

وقد أجاب السيد الخوئي عن هذه الشبهة بوجوه، منها:

  1. إنّ الروايات المشار إليها أخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً.

  2. إنّ هذا الدليل لو تمّ لكان دالاً على وقوع الزيادة في القرآن أيضاً، كما وقعت في التوراة والانجيل، ومن الواضح بطلان ذلك.

  3. إنّ كثيراً من الوقائع التي حدثت في الاَُمم السابقة لم يصدر مثلها في هذه الاَُمة، كعبادة العجل، وتيه بني إسرائيل أربعين سنة، وغرق فرعون وأصحابه، وملك سليمان للانس والجنّ، ورفع عيسى إلى السماء، وموت هارون وهو وصيّ موسى قبل موت موسى نفسه.. وغير ذلك ممّا لا يسعنا إحصاؤه، وهذا أدلّ دليل على عدم إرادة الظاهر من تلك الروايات، فلابدّ من إرادة المشابهة في بعض الوجوه9، وبهذا الوجه اكتفى السيد الطباطبائي في تفسير الميزان10.

التالي

الفهرست

السابق

(1) أُنظر: شرح ابن أبي الحديد 1: 27، الاتقان 1: 204، أنساب الاشراف 1: 587، الطبقات الكبرى 2: 338، مناهل العرفان 1: 247، كنز العمال 2: 588 | 4792.
(2) الاعتقادات: 93.
(3) أوائل المقالات: 55
(4) البيان
في تفسير القرآن: 223.
(5) ارشاد
المفيد 2: 386 تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام، روضة الواعظين: 265.
(6) غيبة
النعماني: 318 و 319.
(7) الكافي
2: 633 | 23.
(8) الفقيه 1: 203 | 609.
(9) البيان في تفسير القرآن: 221.
(10) تفسير الميزان 12: 120.