نسخ التلاوة |
||
قسّموا النسخ في الكتاب العزيز إلى ثلاثة أقسام:
وقد تقدّم في ثنايا البحث السابق أنّ البعض حمل قسماً من الروايات الدالة على النقصان على أنّها آيات نسخت تلاوتها وبقيت أحكامها، أو نسخت تلاوةً وحكماً، وذلك تحاشياً من التسليم بها الذي يفضي إلى القول بتحريف القرآن، وفراراً من ردّها وتكذيبها الذي يؤول إلى الطعن في الكتب الصحاح والمسانيد المعتبرة، أو الطعن في الأعيان الذين نُقلت عنهم، ولا شكّ أنّ القول بالضربين الأخيرين من النسخ هو عين القول بالتحريف، وهو باطل لما يلي: 1. يستحيل عقلاً أن يرد النسخ على اللفظ دون الحكم، لأنّ الحكم لابدّ له من لفظ يدلّ عليه، فإذا رفع اللفظ فما هو الدليل الذي يدلّ عليه؟ فالحكم تابع للّفظ، ولا يمكن أن يرفع الأصل ويبقى التابع. 2. النسخ حكم، والحكم لابدّ أن يكون بالنصّ، ولا انفكاك بينهما، ولا دليل على نسخ النصوص التي حكتها الآثار المتقدّمة وسواها، إذ لم ينقل نسخها ولم يرد في حديث عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في واحدٍ منها أنّها منسوخة، والواجب يقتضي أن يُبلّغ الأمة بالنسخ كما بلّغ بالنزول، وبما أنّ ذلك لم يحدث فالقول به باطل. 3. الأخبار التي زعم نسخ تلاوتها أخبار آحاد، ولا تقوى دليلاً وبرهاناً على حصوله، إذ صرحوا باتّفاق العلماء أجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد1، ونسبه القطّان إلى الجمهور2، وعلّله رحمة الله الهندي "بأنّ خبر الواحد إذا اقتضى عملاً ولم يوجد في الأدلّة القاطعة ما يدلّ عليه وجب ردّه"3، بل إنّ الشافعي وأصحابه وأكثر أهل الظاهر، قد قطعوا بامتناع نسخ القران بالسُنّة المتواترة، وبهذا صرّح أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، بل من قال بإمكان نسخ الكتاب بالسُنّة المتواترة منع وقوعه4، لذا لا تصحّ دعوى نسخ التلاوة مع بقاء الحكم أو بدونه، حتّى لو ادّعي التواتر في أخبار النسخ، فضلاً عن كونها أخبار آحاد ضعيفة الإسناد واهية المتن كما تقدّم. 4. أنكر بعض المعتزلة وعامة علماء الإمامية وأعلامهم الضربين الأخيرين من النسخ واعتبروهما نفس القول بالتحريف، وكذا أنكرهما أغلب علماء ومحققي أهل السنة المتقدمين منهم والمتأخرين، وحكى القاضي أبو بكر في "الانتصار" عن قومٍ إنكار الضرب الثاني منه5، وأنكره أيضاً ابن ظفر في كتاب "الينبوع"6، ونُقِل عن أبي مسلم: "أنّ نسخ التلاوة ممنوع شرعاً"7 وفيما يلي بعض أقوال محققي أهل السنة في إبطال القول بنسخ التلاوة:
الطائفة الثانية: الروايات الدالّة على الخطأ واللحن والتغيير: الأولى: روي عن عثمان أنّه قال: "إنّ في المصحف لحناً، وستقيّمه العرب بألسنتها. فقيل له: ألا تغيره؟ فقال: دعوه، فإنّه لا يحلّ حراماً، ولا يحرّم حلالاً"13. حمل ابن أشتة اللحن الوارد في الحديث على الخطأ في اختيار ماهو أولى من الأحرف السبعة، وعلى أشياء خالف لفظُها رَسْمَها، وهذا الحمل غير مستقيمٍ، والأولى منه هو ترك الرواية وتكذيبها وإنكارها، كما فعل الداني والرازي والنيسابوري وابن الأنباري والآلوسي والسخاوي والخازن والباقلاني وجماعة آخرين14، حيثُ صرّحوا أنّ هذه الرواية لا يصحّ بها دليل ولا تقوم بمثلها حجّة، لأنّ إسنادها ضعيف، وفيه اضطراب وانقطاع وتخليط، ولأنّ المصحف منقولٌ بالتواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا يمكن ثبوت اللحن فيه، ثمّ إنّ ما بين الدفّتين هو كلام الله بإجماع المسلمين، ولا يجوز أن يكون كلام الله لحناً وغلطاً، وقد ذهب عامّة الصحابة وسائر علماء الأمّة من بعدهم إلى أنّه لفظ صحيح ليس فيه أدنى خطأ من كاتبٍ ولا من غيره، واستدلّوا أيضاً على إنكار هذه الرواية بقولهم: إنّ عثمان جعل للناس إماماً، فكيف يرى فيه لحناً ويتركه لتقيّمه العرب بألسنتها، أو يؤخّر شيئاً فاسداً ليصلحه غيره؟! وإذا كان الذين تولوا جمعه وكتابته لم يقيّموا ذلك - وهم الخيار وأهل اللغة والفصاحة والقدرة على ذلك - فكيف يتركون في كتاب الله لحناً يصلحه غيرهم؟ ثمّ إنّ عثمان لم يكتب مصحفاً واحداً بل كتب عدة مصاحف، فلم تأتِ المصاحف مختلفة قطّ، إلا فيما هو من وجوه القراءات والتلاوة دون الرسم، وليس ذلك باللحن"15. والذي يهوّن الخطب في هذه الرواية ومثيلاتها الآتية أنّها برواية عكرمة مولى ابن عبّاس، وكان من أعلام الضلال ودعاة السوء، وكان يرى رأي الخوارج، ويُضرب به المثل في الكذب والافتراء، حتى قدح به الأكابر وكذّبوه، أمثال ابن عمر ومجاهد وعطاء وابن سيرين ومالك بن أنس والشافعي وسعيد بن المسيب ويحيى بن سعيد، وحرّم مالك الرواية عنه، وأعرض عنه مسلم16. الثانية: روي عن ابن عباس في قوله تعالى: ((حَتّى تَسْتَأنِسُوا وتُسلّموا)) (النور24:27) قال: "إنّما هو (حتّى تستأذنوا)، وأنّ الأوّل خطأٌ من الكاتب"17، والمراد بالاستئناس هنا الاستعلام، أي حتى تستعلموا من في البيت، فهذه الرواية مكذوبةٌ على ابن عباس ولا تصحّ عنه ، لأنّ مصاحف الإسلام كلّها قد ثبت فيها ((حتى تَسْتَأنِسُوا)) وصحّ الإجماع فيها منذ عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى الآن، فلا يعوّل على مثل هذه الرواية، قال الرازي: "إعلم أنّ هذا القول من ابن عبّاس فيه نظر، لأنّه يقتضي الطعن في القرآن الذي نُقِل بالتواتر، ويقتضي صحّة القرآن الذي لم يُنْقَل بالتواتر، وفَتح هذين البابين يطرق الشكّ في كلِّ القرآن، وإنّه باطل"18. وقال أبو حيان: "من روى عن ابن عبّاس أنّ قوله تعالى: ((حَتّى تَسْتَأنِسوا)) خطأ أو وهمٌ من الكاتب، وأنّه قرأ (حتى تَسْتَأذِنُوا) فهو كافرٌ في الإسلام، مُلْحِدٌ في الدين، وابن عباس بريءٌ من هذا القول19. الثالثة: روى عروة بن الزبير عن عائشة: أنّه سألها عن قوله تعالى: ((لكن الراسخون في العلم)) (النساء4: 62 ) ثمّ قال: ((والمقيمين))، وفي المائدة: ((إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون))، (المائدة5: 69) و((إنّ هذان لساحران)) (طه20: 63) فقالت يا بن أُختي، هذا عمل الكُتّاب، أخطأوا في الكتاب20. أمّا قوله تعالى: ((والمقيمين)) فانّه على العطف يكون (والمقيمون) كما في قراءة الحسن ومالك بن دينار، والذي في المصاحف وقراءة أُبيّ والجمهور ((والمقيمين)) قال سيبويه: "نُصِب على المدح، أي وأعني المقيمين" وذكر له شواهد وأمثلة من كلام العرب21. قال الآلوسي: "ولا يُلْتَفَت إلى من زعم أنّ هذا من لحن القرآن، وأنّ الصواب (والمقيمون) بالواو.. إذ لا كلام في نقل النظم متواتراً، فلا يجوز اللحن فيه أصلاً"22. وأمّا قوله تعالى: ((والصابئون)) بالرفع فهو معطوفٌ على محلّ اسم إنّ. قال الفراء: "ويجوز ذلك إذا كان الاسم ممّا لم يتبيّن فيه الإعراب، كالمضمر والموصول، ومنه قول الشاعر: من يكُ أمسى بالمدينة رحله فإنّي وقيارٌ بها لغريبَ برفع (قيار) عطفاً على محلّ ياء المتكلّم"23 وقد أجاز الكوفيون والبصريون الرفع في الآية واستدلّوا بنظائر من كلام العرب. وقال صاحب المنار: "قد تجرأ بعض أعداء الإسلام على دعوى وجود الغلط النحوي في القرآن، وعدّ رفع (الصابئين) هنا من هذا الغلط، وهذا جمعٌ بين السخف والجهل، وإنّما جاءت هذه الجرأة من الظاهر المتبادر من قواعد النحو، مع جهل أو تجاهل أنّ النحو استنبط من اللغة، ولم تستنبط اللغة منه"24. وأمّا قوله تعالى: ((إنّ هَذانِ لَسَاحِرانِ)) فإنّ القراءة التي عليها جمهور المسلمين هي تخفيف إن المكسورة الهمزة، فتكون مخففةٌ من الثقيلة غير عاملةٍ، ورفع (هذان). قال الزمخشري: "إنّ هذان لساحران على قولك: إنّ زيد لمنطلق، واللام هي الفارقة بين إن النافية والمخففة من الثقيلة"25، وعليه فلا إشكال في هذه الآية، ولا لحن من الكُتّاب! قال الرازي: "لما كان نقل هذه القراءة في الشهرة كنقل جميع القرآن، فلو حكمنا ببطلانها جاز مثله في جميع القرآن، وذلك يفضي إلى القدح في التواتر، وإلى القدح في كلِّ القرآن، وإنّه باطل"26. الرابعة: روي أنّ الحجاج بن يوسف غيّر في المصحف اثني عشر موضعاً، منها:
وهذه الأمثلة، وسواها منقولةٌ من (مصاحف السجستاني) برواية عباد ابن صهيب28، وعباد متروك الحديث لدى أئمّة الحديث والجرح والتعديل، ومغموزٌ فيه بالكذب والاختلاق29. قال السيد الخوئي: "هذه الدعوى تشبه هذيان المحمومين وخرافات المجانين والأطفال، فإنّ الحجّاج واحدٌ من ولاة بني أُمية، وهو أقصر باعاً وأصغر قدراً من أن ينال القرآن بشيءٍ، بل هو أعجز من أن يغيّر شيئاً من الفروع الاِسلامية، فكيف يغير ما هو أساس الدين وقوام الشريعة؟! ومن أين له القدرة والنفوذ في جميع ممالك الإسلام وغيرها مع انتشار القرآن فيها؟ وكيف لم يذكر هذا الخطب العظيم مؤرخ في تاريخه، ولا ناقد في نقده مع ما فيه من الأهمية، وكثرة الدواعي إلى نقله؟ وكيف لم يتعرض لنقله واحد من المسلمين في وقته؟ وكيف أغضى المسلمون عن هذا العمل بعد انقضاء عهد الحجاج وانتهاء سلطته؟ وهب أنّه تمكّن من جمع نسخ المصاحف جميعها، ولم تشذّ عن قدرته نسخةٌ واحدةٌ من أقطار المسلمين المتباعدة، فهل تمكّن من إزالته عن صدور المسلمين وقلوب حفظة القرآن وعددهم في ذلك الوقت لا يحصيه إلا الله"30، وقد بيّنا في أدلّة نفي التحريف أنّ خلفاء الصدر الأول لم يجرأوا على حذف حرفٍ منه، وقد بلغ من دقّة وتحرّي المسلمين أن يهدّدوا برفع السيف في وجه من يُقدِم على ذلك، فكيف يتمكّن الحجّاج بعد اشتهار القرآن وتعدّد نسخه وحفّاظه أن يغيّر اثني عشر موضعاً من كتاب الله على مرأى ومسمع جمهور المسلمين ومصاحفهم؟" |
||
(1) الموافقات
للشاطبي 3: 106. |