أقسام معرفة القرآن (1) |
||
الآن، و بعد أن علمنا ضرورة معرفة القرآن، لا بد أن نرى ما هي طريقة معرفة هذا الكتاب؟ لمطالعة وفهم أي كتاب بصورة عامة، هناك ثلاثة أقسام للمعرفة لا بد منها: أولا: المعرفة الإسنادية أو الانتسابية في هذه المرحلة، نريد أن نعرف مدى ضرورة انتساب الكتاب إلى كاتبه، لنفرض مثلا: أننا نريد أن نعرف ديوان"حافظ" أو "خيام"، في المقدمة لا بد من معرفة آن ما اشتهر من ديوان حافظ، له كله أم أن بعض الكتاب له والباقي ينسب إليه، وهكذا بالنسبة إلى خيام أو غيرهما. هنا لابد من الاستعانة بنسخ الكتاب أقدمها وأكثرها اعتبارا. ونلاحظ أن جميع الكتب لا تستغني عن هذا النوع من المعرفة. ديوان "حافظ" الذي طبعه المرحوم القزويني واستفاد فيه من أكثر النسخ اعتبارا، يختلف اختلافا كبيرا مع النسخة الموجودة في كثير من البيوت والمطبوعة في "بمبئي". وعندما ما تلقي نظرة إلى "رباعيات الخيام"، ربما ترى 200 (رباعية) في منزلة واحدة ومستوى واحد تقريبا، وإذا كان فيها أي اختلاف فإنه كاختلاف أشعار كل شاعر. مع العلم بأننا لو رجعنا تأريخيا إلى الوراء واقتربنا من عصر الخيام، لرأينا أن المنسوب إليه قطعا يقل عن 20 رباعية، والباقي يشك في صحة انتسابة إليه، أو أنه من نظم شعراء آخرين دون ترديد. وعلى هذا فإن أولى مراحل معرفة الكتاب هي أن نرى مدى اعتبار إسناد الكتاب الذي بين يدينا إلى مؤلفة. وهل يصح إسناد كل الكتاب أم بعضه إليه؟ وفي هذه الحالة كم في المائة من الكتاب نستطيع تأييد إسناده إلى المؤلف؟ وعلاوة على ذلك، بأي دليل نستطيع أن ننفي بعضا ونؤيد بعضا ونشك في البعض الآخر؟ القرآن مستغن عن هذا النوع من المعرفة، ولهذا فإنه يعتبر الكتاب الوحيد (الذي يصح إسناده) منذ القدم، ولا يمكننا الحصول على أي كتاب قديم قد مضى عليه قرونا من الزمان وبقي إلى هذا الحد صحيحا معتبرا دون شبهة. وأما الموضوعات التي تطرح أحيانا، ومن قبيل المناقشة في بعض السور أو بعض الآيات، فإنها موضوعات خاطئة ولا داعي لعرضها في الدراسات القرآنية، القرآن تقدم على علم معرفة النسخ، ولا يوجد أدنى ترديد في أن الذي جاء بهذه الآيات من الله عز وجل، هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم. جاء بها عنوانا للإعجاز، لأنها كلام الله، ولا يقدر أحد أن يدعي أو يحتمل وجود نسخة أخرى غير هذا القرآن، ولا يوجد في العالم مستشرق واحد، يبدأ - في بحثه عن القرآن - بالتحقيق حول نسخ القرآن القديمة، (فلا توجد هناك نسخ متعددة من القرآن)، وبالرغم من أن هذه الحاجة ( حاجة ملاحظة النسخ القديمة) موجودة لدى التحقيق في التوراة والإنجيل والشاهنامه (للفردوسي) وديوان سعدي وأي كتاب آخر، فإن القرآن لا يقال بحقه مثل ذلك. والسر في هذا الأمر - كما تقدم - هو تقدم القرآن على علم معرفة النسخ. والقرآن علاوة على أنه كتاب سماوي مقدس وأتباعه ينظرون إليه بهذه العين، فإنه أصدق دليل على صدق ادعاء الرسول ويعتبر أكبر معجزاته. وإضافة إلى ذلك، فإن القرآن ليس مثل التوراة التي نزلت مرة واحدة، حتى يصح هذا الإشكال: ما هي النسخة الأصلية؟ بل، وإن آيات القرآن نزلت بالتدرج وطوال ثلاثة وعشرين سنة، ومن اليوم الأول لنزول القرآن، تنافس المسلمون على تعلمه وحفظه وفهمه، كما يتهالك الظمآن على شرب الماء، وخصوصا فإن المجتمع الإسلامي وقتئذ كان مجتمعا بسيطا، ولم يكن هناك كتاب لا بد للمسلمين من حفظه وفهمه إلى جنب القرآن. خلو الذهن، فراغ الفكر، قوة الذاكرة وعدم الإلمام بالقراءة والكتابة كلها كانت الدافع إلى أن تركز المعلومات السمعية والبصرية - لدى الإنسان المسلم وفي ذاكرته تركيزا قويا، ولأجل ذلك، فإن موافقة بيان القرآن مع عواطفهم وأحاسيسهم، أدى إلى تركيزه في قلوبهم كما يرتكز الرسم المحفور في الصخر. كانوا يقدسونه باعتباره كلام الله لا كلام البشر، ولا يسمحون لأنفسهم أن يغيروا كلمة واحدة، بل حرفا واحدا فيه أو أن يقدموا أو يؤخروا حرفا، وكان كل همهم أن يقتربوا من الله بتلاوة هذه الآيات (تلاوة صحيحة). علاوة على كل هذا، فإن ذكر هذه النقطة ضرورية، وهي أن الرسول الأكرم (ص) منذ الأيام الأولى، انتخب عددا من خواص الكتاب، ويعرفون باسم "كتاب الوحي"، وتحسب هذه ميزة للقرآن، إذ أن الكتب القديمة لم تكن كذلك، كتابة كلام الله منذ البداية تعتبر عاملا قطعيا لحفظ القرآن وصونه من التحريف. وهناك سبب آخر لحسن تقبل القرآن لدى الناس، وهو الناحية الأدبية والفنية للقرآن، والتي يعبر عنها بالفصاحة والبلاغة، الجاذبية الأدبية الشديدة للقرآن، كانت تدعو الناس بالتوجه إليه، والاستفادة منه بسرعة، وذلك خلافا للكتب الأدبية الأخرى، التي يتصرف فيها رواد الأدب كيفما يشاؤون، ليكملوها حسبت تصورهم. وأما القرآن، فلا يجيز أحد لنفسه التصرف فيه، لأن هذه الآية: ((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ)) (الحاقة، الآية 44-46) وآيات أخرى توضح مدى عقوبة الكذب على الله، وعندما تتمركز هذه الآيات في مخيلته ينصرف عن هذا الأمر. وبهذا الترتيب، قبل أن يرى التحريف له طريقا إلى هذا الكتاب السماوي، تواترت آياته ووصلت إلى مرحلة لا يمكن إنكار أو تحريف حرف واحد منه. ولذا، لا يلزمنا البحث في هذه الناحية من القرآن، كما أن كل عارف للقرآن في العالم لا يرى لنفسه ضرورة البحث في هذا المجال. هنا لا بد أن نتذكر نقطة واحدة، وهي أنه بسبب سعة نطاق الحكومة الإسلامية، واهتمام الناس الشديد بالقرآن، وبواسطة بعد عامة المسلمين عن المدينة (المنورة) التي كانت مركز الصحابة وحفاظ القرآن، فإن احتمال خطر بروز تغييرات متعمدة أو غير مقصودة في نسخ القرآن كان أمرا واردا، خاصة بالنسبة إلى المناطق النائية على الأقل. إلا أن فطانة ودقة مراقبة المسلمين منعتا حدوث هذا الأمر. فالمسلمون منذ أواسط القرن الأول للهجرة احتملوا هذا الخطر، ولذلك استفادوا من وجود الصحابة وحفاظ القرآن، ولتجنب أي خطأ أو اشتباه، عمدا كان أو سهوا في المناطق البعيدة، فإنهم استنسخوا نسخا مصدقة (من قبل الصحابة الكبار وحفاظ القرآن) من القرآن، ووزعت هذه النسخ من المدينة إلى الأطراف، ولذلك قطعوا الطريق إلى الأبد من ظهور مثل هذه الاشتباهات أو الإنحرافات، وخصوصا من قبل اليهود الذين يعتبرون أبطالا في فن التحريف. |
||